icon
التغطية الحية

يوسف العظمة.. شهيد أخلص لإرادته العسكرية

2021.09.26 | 20:52 دمشق

b4d5966f-94c3-4b50-8fdc-ccfa62ae5b1e.jpg
إسطنبول - فاطمة ياسين
+A
حجم الخط
-A

على منعطف مهم من تاريخ سوريا المعاصر يقف يوسف العظمة شاهداً على حدثٍ شكّل عنوانا لنصف قرن قادم، فقد قاد معركة دفاعية رمزية على التخوم الغربية لدمشق لصد تقدم القوات الفرنسية، بعد قرار أممي بتطبيق حالة الانتداب على سوريا.. قام يوسف العظمة بما يجب على وزير الدفاع القيام به، فجمع جيشه الصغير وانطلق به إلى ساحة المعركة، حيث سقط شهيدا ومرت قطعات جيش الاحتلال على جثته.

ولد يوسف العظمة في دمشق في التاسع من نيسان عام 1884، وأمضى دراسته الابتدائية والإعدادية فيها، لكنه تابع تحصيله العلمي العسكري في الأستانة في مدرسة قلهلي الإعدادية العسكرية على شاطئ البوسفور، وتخرج فيها برتبة ملازم ثان. لم يتوقف تحصيله العسكري هنا لأنه التحق بكلية الأركان لمدة ثلاث سنوات، وحصل في نهايتها على الميدالية الذهبية، وهي جائزة أحدثها السلطان عبد الحميد الثاني، تعطى لمتفوقي هذا النوع من الدراسة. تخرج في مدرسة الأركان برتبة يوزباشي أركان حرب، وكان عندئذ في الثالثة والعشرين من عمره ومستعدا لدخول حياته العملية كضابط مؤهل في جيش بلاده.

أُرسل إلى ألمانيا بموجب اتفاقيات التبادل الدراسي العسكري الذي كان معقودا بين تركيا وألمانيا، وهناك خضع لدورات عسكرية بالإضافة إلى تعلم اللغة الألمانية، فأصبح يمتلك اللغات: العربية والتركية والفرنسية والألمانية كتابة وقراءة وتحدثا، وبعد أن أتم عاما كاملا في الدراسة العسكرية في ألمانيا عاد إلى الأستانة، فتم تعيينه كاتبا لدى المفوض السامي العثماني في مصر المشير الثاني أحمد مختار باشا، ولكنه عند نشوب الحرب العالمية الأولى ترك مصر وتطوع في جيش الأستانة التي عينته معاونا لرئيس أركان حرب الفيلق الأول، ثم سرعان ما أصبح رئيسا للفيلق ذاته، حارب الفيلق على جبهة القفقاس ومقدونيا ورومانيا، عاد العظمة بعدها إلى الأستانة حيث رافق أنور باشا ناظر الحربية العثمانية في رحلاته إلى سوريا والعراق والأناضول.

 بعد انتهاء الحرب وانعقاد الهدنة بين الأطراف المتحاربة عاد يوسف العظمة إلى دمشق ثم إلى بيروت حيث تم تعيينه مندوبا عربيا لدى المندوب السامي الفرنسي في بيروت الجنرال هنري غورو، وهناك ازداد نفوذ العظمة بين الأهالي وأصبح مرجعا لهم، وأحس غورو بخطورة هذا الرجل، فقدم شكوى بحقه لدى الملك فيصل وذلك في الاجتماع الذي عقد بينهما في بيروت، فتم نقل يوسف العظمة إلى دمشق كبيرا لمرافقي الملك فيصل، الذي دخل دمشق ملكاً على سوريا وبدأ بتأليف الجيش الوطني. عيّن يوسف العظمة رئيسا لأركان هذا الجيش ورُقّي إلى رتبة قائم مقام، ثم دخل حكومة هاشم الأتاسي وزيراً للحربية، وهي ثاني حكومة يشكلها فيصل بن الحسين وهو يحمل لقب الملك، وقد تشكلت هذه الحكومة للتعامل مع مشكلات اقتصادية وسياسية خطيرة، فقد توقفت بريطانيا عن تمويل فيصل بن الحسين، فأفلست حكومته، واستعان بمجموعة من مناهضي الانتداب الفرنسي، لكن لم تعمر هذه الحكومة وسقطت بعد أقل من ثلاثة أشهر على تشكيلها، فكانت من أقصر الحكومات السورية عمرا.

أرسل الجنرال غورو إنذارا إلى الملك فيصل يطالبه فيه بمجموعة مطالب، منها تسريح الجيش وتوقيف التجنيد الإلزامي، والسماح باستخدام الفرنسيين للسكك الحديدية. اضطرب فيصل واتخذ عدة قرارات متضاربة فوافق في البداية على الإنذار وسرح الجيش، ثم ما لبث أن تراجع عن قراره! وخطب في الجامع الأموي حاثا على الجهاد، في حين كان وزير الحربية يوسف العظمة يجمع بقية جيشه المنحل وينظم شؤون المتطوعين، ثم سار الجميع لملاقاة الجيش الفرنسي القادم نحو دمشق من ميسلون. قاد يوسف العظمة نحو ثلاثة آلاف رجل بين عساكر ومتطوعين، احتشدوا في وجه القوة العسكرية الفرنسية التي تألفت من قطعات حديثة تتضمن المدافع والمصفحات مع مؤازرة فعالة من الطائرات المقاتلة، كان يوسف العظمة يدرك أن المواجهة محسومة، ولكن، مخلصا لإرادته العسكرية وموقعه في وزارته الحربية، وصادقا في شعوره الوطني، لم يكن يرغب أن تدخل جيوش الاحتلال إلى العاصمة، وكأنهم في النزهة، واختار أن يقاتل بما لديه ولو أدى الأمر إلى استشهاده.

في الرابع والعشرين من تموز، وعلى أرض ميسلون لم يمتلك الجيش السوري بقيادة يوسف العظمة خطة عسكرية محكمة لصد الهجوم، كان التخطيط اعتباطيا ومرتجلا، ومع بدء المعركة ومباشرة المدفعية الفرنسية بالقصف تفرق معظم المتطوعين الذين لم يكونوا على دراية تامة بالحرب ولم يبق في ساحة القتال إلا الجنود النظاميون البالغ عددهم نحو مئتين وخمسين جنديا فقط، في حين بلغ تعداد القوات الفرنسية زيادة على تسعة آلاف جندي. في الثامنة والنصف من صباح يوم المعركة، كان يوسف العظمة في وسطها يشاهد تقدم الدبابات الفرنسية فهرع بنفسه إلى المدفع المرابط على مفترق الطريق ليأمره بإطلاق النار على الدبابة، وما إن وصل حتى تلقى طلقة مدفعية من الدبابة المتقدمة، أردته شهيدا في أرض المعركة، تبعثر الجيش السوري بعدها وتقدم الجيش الفرنسي نحو دمشق، وجثة يوسف العظمة في ميسلون شاهدة على رفض القوى الوطنية السورية دخولَ جيش الانتداب الفرنسي إلى العاصمة.

دفن العظمة في الموقع ذاته الذي استشهد فيه، بعد أن وافقت سلطات الانتداب على إقامة ضريح له، شرط عدم كتابة أي عبارات محرضة، وهكذا بقي يوسف العظمة في أرض معركته حتى الآن.