يا لبؤس السوريين وتعاستهم

2020.02.19 | 23:00 دمشق

aray.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يختلف أحد حول بؤس السوريين اليوم وشقائهم، فما هم فيه الآن لم يمر عليهم أو لم يعانوا مثله أبداً من قبل.. ولا أعني بالبؤس ذلك الذي أذاقتهم إياه الحرب المستمرة خلال تسع سنوات كاملة جعلتهم، من قتلٍ وفقدٍ وهدمٍ وتهجير وتغريب، بين حجري رحى نظام ظالم حاقد، ومعارضة عاجزة ممزقة.. ويشهد على ذلك ما حدث في الفترة الأخيرة في ريفي إدلب وحلب الغربي إذ يهجَّر المهجَّر أصلاً في هذا الطقس الرديء، وفي ظروف تفتقر لأبسط احتياجات الإنسان التي تبقيه على قيد الحياة..! لا ليس ذلك فحسب، على شدة ذله وقسوته، بل أعني ما هو أعمق وأمرّ وهو تلك الغربة الروحية وخرابها.. الغربة التي أتت فعلاً على نخبهم السياسية والثقافية.. وأكثر ما تتجلى اليوم في سيرهم نحو فقدانهم للانتماء الوطني الذي كان، أو التشكك به على الأقل.. فترى السوري اليوم، أينما كان موقعه من الخارطة السياسية، في الداخل والخارج على السواء، يلوذ بهذا المتدخل أو ذاك، يتلقى منه الأوامر كتابع ذليل..! فيما يبدو في الأفق أن لا فكاك له من هذه الحال إلا بمعجزة تخترق السائد والمألوف.. ولعل الشعار الذي أطلق في العام 2011: "يا الله ما لنا غيرك يا الله" يتجسد اليوم بمعانيه كلها.

وإذا كان خصمهم في البدايات بشار الأسد فحسب، فحالهم اليوم، كما شطر بيت أبي الطيب "فعلى أي جانبيك تميل" وليس ذلك فحسب بل تراهم مختلفين حول ما يجري على أرضهم من صراع دموي ضحاياه من أهل وأقرباء وأصحاب بمئات الألوف بين قتيل وجريح ومشرَّد.. إن جوهر ما يعانيه السوريون اليوم هو فقدانهم للشعارات التي انطلقت بها ثورتهم وملخّصها: الحرية التي تتمثل بدولة مدنية ديمقراطية تتسع لأطياف الشعب السوري كلها.. فأين هم من ذلك اليوم..؟! إنهم غارقون في هذه الحرب التي كان قد أشعلها النظام دون أدنى شك بقطعه الطريق على كل حوار وخصوصاً بعد أن استمع إلى آراء السوريين كافة بأكثريتهم وأقلياتهم بمثقفيهم وسياسييهم.. وكان تركيز الجميع على دولة المواطنة الحقة التي لا تمييز فيها ولا استعلاء مواطن على آخر.. إذ لم يكن خلاف الشعب السوري مع النظام الحاكم حول الإرهاب أو التطرف بل هو حول انعدام الديمقراطية، وهيمنة حزب البعث على الدولة والمجتمع، وديمومة حالة الطوارئ، وفقدان قانون للأحزاب ما يتيح تنظيم العمل السياسي وبالتالي تداول السلطة بانتخابات فعلية.. كما كان الخلاف حول تفاقم ظواهر الفساد وزيادة خطورتها، وتوقف برامج التنمية بسببه بالذات، إضافة إلى مشكلات أخرى كالبطالة والتمييز بأشكاله كافة وسطوة الأجهزة الأمنية، وشبح الاعتقال الذي يلاحق كل من له رأي مختلف.. ولو أن النظام قام بإصلاحات تناولت بعض هذه المطالب في العام 2011 لما حدث ما حدث.. وللأسف لم يفعل بل اختار الحل الأمني وأخذ يحصد المتظاهرين قتلاً أو سجناً، ورغم ذلك، لم يكن بمقدوره الاستمرار بأسلوب القتل ذاته فأخذ يبحث عما يبرر له القتل والاعتقال فأفرج عن الإسلاميين المتطرفين من معتقلاتهم في سوريا ومنهم من كان قد أرسله إلى العراق، وتلاقت عندئذ فكرة النظام بفكرة التسليح دفاعاً عن المتظاهرين ما سمح للإرهاب أن يتسرب بسهولة ويسر والكل يعرف أنه عندما دخلت أفواج داعش صيف 2013 لم يعترضها أحد لا النظام ولا الفصائل الأخرى التي تنتمي إلى الثورة، في حين كانت النصرة مقبولة أكثر على أنها الفصيل القوي شديد البأس! ولكن ما إن مرَّ وقت قصير حتى تبين أن لهذين الفصيلين بالتحديد أجندتاهما الخاصة المتباينة عن أجندات الثورة السورية وتوجهها نحو دولة مدنية ديمقراطية، وأخذ دعاتهم يتغلغلون داخل الفصائل الأخرى فكانت لهم إمامة العديد من المساجد والخطب والدروس واستمالة عناصر الشباب الذين يؤخذون ببراءة إيمانهم بدينهم.. ناهيكم بترحيب السوريين العفوي بالأجنبي إذ كان لهؤلاء القادمين من خارج الحدود مكانة خاصة. وتلك كلها حقائق معروفة، لكن ومع الأسف الشديد لم يلتفت إليها أحد وربما لم يقدر، وقد رافق ذلك انعدام القدرة على إنجاز تشكيل جيش وطني تكون أعمدته الرئيسة أولئك الضباط المنشقين الذين ولاؤهم الوطني لـ سوريا.. كل ذلك قاد إلى ما نحن فيه الآن، وما تحمّل تبعاته الشعب السوري وخصوصاً النساء والأطفال وكبار السن.. ولعل الكوارث الأخيرة التي أحاقت بريفي إدلب وحلب الغربي قبل أيام فقط ولا تزال هي الأكثر مأساوية في التاريخ، كما وصفتها تقارير المفوضية العليا لحقوق الإنسان، وكما قال عنها الأمين العام للأمم المتحدة بأنها "أفظع كارثة مرت على عالمنا منذ الحرب العالمية الثانية.."

اليوم يعلن النظام ومن دعمه أنهم انتصروا، ويسعون لإعادة تأهيله على أنه منتصر على الإرهاب.. لكن الحقيقة، وإذا توخينا الدقة أمكننا القول: إنهم انتصروا فعلاً، ولكن على الشعب السوري بأكمله

اليوم وبعد أن تدمرت سوريا، بل بعد أن قدمت على طبق من ذهب لكل من كان يضمر لها شراً، وهجّر نصف شعبها أو ثلثه على أقل تقدير وقبع عشرات الآلاف من السوريين في السجون والمعتقلات. وبعد أن استعان النظام بجيوش وأسلحة فتاكة، وبمليشيات هي وجه داعش الآخر إذ لا تختلف عنها في تخلفها وتوحشها وتعطشها للدم.. اليوم يعلن النظام ومن دعمه أنهم انتصروا، ويسعون لإعادة تأهيله على أنه منتصر على الإرهاب.. لكن الحقيقة، وإذا توخينا الدقة أمكننا القول: إنهم انتصروا فعلاً، ولكن على الشعب السوري بأكمله، إذ ليست حال السوريين في الداخل بأفضل ممن عانوا قسوة التهجير والاغتراب، وخصوصاً إذا استثنينا الشبيحة، والذين يتكسبون بمأساة شعبهم، وبمفردات عيشه وأمنه.. فالكبت والقمع وانعدام الأمن وضيق العيش وتدني القيم الإنسانية والأخلاقية هو السائد الأمر الذي دفع العديد من أفراد الشعب إلى التذمر العلني ورفع الصوت والشكوى وإن على الطريقة السورية أي: "الكل مذنب ما عدا الرئيس" فقد جاء في رسالة بعثها أحد البعثيين إلى رئيس النظام يقول فيها بعد كلمات المجاملة والمديح، إنها:

"مطالب النّاس متواضعة جداً هي أبسط شروط العيش شبه الكريم.. وتتعلق بمستوى المعيشة - ورغيف الخبز كماً ونوعاً – وخدمات: كهرباء - مياه - صحة – محروقات- حليب أطفال - أدوية - شح أجور ورواتب – تفشي البطالة – الغلاء - الفساد – الحلم بجرّة غاز وليتر مازوت.." مضيفاً أن "كل ما ذكر مجرّد مستلزمات حياة تميّز الإنسان ككائن عاقل عن باقي الكائنات الحيّة". وختمها بالقول: "إنها أمور لا تحتاج الى عبقريّة في التّخطيط والتّنفيذ"

وأخيراً إذا كان وضع الناس في الداخل والخارج على ذلك النحو، فإن الخريطة الأرضية للمتدخلين أشد سوءاً إذ باتت مرعبة حقاً، شمالاً وجنوباً.. شرقاً وغرباً ففي كل منطقة قوة أجنبية تلقي بعباءتها على مجموعة من السوريين يتوهمون خلاصهم على يد تلك القوة التي لا تبشر بحل قريب، وربما يجانب المرء الصواب إن قال ببقاء سوريا تحت النفوذ الأجنبي لعقود وخصوصاً إذا بقي نظام الأسد في السلطة غطاء وسبباً، ويجد من يدعمه بارتكابه أفظع الجرائم بحق الإنسانية كما الروس..

ولعلَّ ما يزيد الطين بلة هو ما نشهده هذه الأيام من تعقيد للأمور بين الروس والأتراك وهو ما يزيد الأمور ضبابية وقلقاً إذ يخيم في سماء البلاد شبح حرب بين الروس والأتراك قد تُلحق بالشعب السوري نكبات وكوارث أكثر مما حصل.. وقد يتخوف بعضهم إذ يتصوَّر أن الغلبة ستكون للروس، ربما لعدم تكافؤ موازين القوى.. لكن الأمر ليس كذلك، فالأتراك ليسوا لقمة سائغة كما "غروزني" أو كما الفصائل السورية التي لا تملك إمكانية التصدي وبخاصة للطيران.. إنهم دولة إقليمية متجذرة ووضعها السابق دولة إمبراطورية كروسيا تماماً.. ذلك إذا أغمضنا العين عمّا بينهما من مصالح متبادلة.. وكذلك ما يمكن أن يفعله الأمريكان، هؤلاء المتربصون الذين في النهاية لهم كلمة الفصل بما يملكونه من قوى متفوقة على غير صعيد، وقد ألمحوا إلى الأتراك بتقديم المساعدة، دون التصريح بشروطها..! ولكن، ومهما يكن من أمر، فالكارثة، إذا ما حدثت، فسوف تقع فوق رؤوس السوريين أجمعين!