"يا حُريّة" هشاشتي معروضة للجمهور

2018.03.28 | 08:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ليس من عادتي أن أنام بعد الظهر، لكني في ذلك اليوم فعلتها. استغرقت في نوم عميق لأربع ساعات، كما لو أنني كنت عائداً من رحلة خرافية أرهقت الروح والجسد. عندما صحوت أدركت أني ذهبت، بعد توقف الكاميرات عن التصوير، إلى حالةٍ من النوم الهُروبيّ، إن كان يمكن وصف النوم بهذه الصفة. نومٌ كنت أحتاجه لأهدئ الرجَّة التي أصابت كامل روحي، بعد أن ورطت نفسي وارتكبتُ أمراً استثنائياً ومقلقاً لم أعتد عليه سابقاً.

لست متحفظاً في الحديث عن السجن وغالباً أسترسل مع الأصدقاء وأروي لهم قصصه، ربما لأشفى منه، رغم يأسي الشديد من الوصول لحالة التعافي التام. وأعرف الكثير من أصدقائي زملاء التجربة ممن لا يفضّلون المرور على أو الحديث عن تجاربهم الشخصية في الاعتقال. نعم، السجناء يتوزعون بين هاتين الحالتين متحفظ وثرثار.

رغم أني شخصياً أصنّف نفسي مع القسم الثاني، لكن يومَ طلبت مني معدّة "يا حريّة" (برنامج تلفزيوني توثيقي عن حكايات السجن السوري) أن أكون ضيفها في واحدة من حلقات السلسلة، لأحكي بعضاً مما مرَّ بي في تجربتي الشخصية، استبعدتُ الفكرة نهائياً. بدايةً، رفضت رفضاً قاطعاً. قلت لنفسي: صحيح أنا أتحدث للأصدقاء عن هذه التجربة، حيث أشعر بينهم بأمان عاطفي يساعد على البوح، ولكن أن أتحدث لكل الناس فهذا أمر آخر، أمرٌ لست متشوقاً لمغامرة التجريب فيه.

لن أخوض هنا في تفاصيل ما جرى، والأسباب التي أدت بي إلى أن أوافق في النهاية. نعم، وافقتُ رغم خوفي وشكوكي من النتائج، خاصة وأني من النوع الذي كلما شاهد صورهُ الفوتوغرافية يتهم الكاميرا بأنها غير جيدة، ثم أستسلم إلا أنه من المستحيل أن تكون هناك مؤامرة من كل كاميرات العالم لإظهار وجهي على هذا النحو الذي لم يرضني ولو لمرة واحدة، وأسلّم أكثر بأن لا شأن للكاميرا، والأمر لا يعدو أن يكون نوعاً من ألاعيب الطبيعة التي تأتي محرِجةً في الكثير من الحالات.

كنت أجلس قبالة مصوّرَين اثنين والمخرج الفني ومخرج العمل وفنيّ الصوت وأتوجه بحديثي لمعدة السلسلة، التي كانت أعدّت مَحاور الحديث بطريقة تجرّ محدثها ليقول حتى ما لم يكن يرغب بقوله. استرسلتُ كثيراً في أحاديث مؤلمة ومهلكة للروح، لكن في لحظةٍ قُصوَويّةٍ، قطعت حديثي ثم رفعت يدي وكأني أحتج، بل أكثر من ذلك وقفت وشتمتهم، نعم فعلتها وشتمتهم كطفل حرون، وكأنني كنت أتهمهم جميعاً بأنهم يعذبونني، وعليهم أن يكفّوا فوراً عن فعلتهم المعيبة تلك. أدرت ظهري وتوجهت نحو علبة سجائري، لأكتشف بعد التفاتةٍ، أن الجميع ودون استثناء كانوا يمسحون دموعهم.

"غياب الأب في السجن هي واحدة من ممكنات الجحيم السوري في ظل نظام الأسد"

سيتكرر هذا الأمر أكثر من مرة. في إحداها كانت محاورتي تخفي وجهها وهي تجهش بالبكاء. سأعلم فيما بعد أنها، وهي الفلسطينية، كانت كعشرات آلاف الأطفال السوريين تعبر في كل شهر الطريق المرير والمؤلم لتزور والدها في سجن "المزّة" السوري، طفلةً صغيرة ألفت كباقي أبنائنا فكرة أن غياب الأب في السجن هي واحدة من ممكنات الجحيم السوري في ظل نظام الأسد. وأنها كانت، وأنا أتحدث إليها عن ابنتي، تستحضر صورة أبيها لو أنه سيبوح بمثل هذا.

لا يسعد المرء أن يكشف عن مواطن ضعفه أو حزنه، أو حتى لحظات الخوف والرعب التي مرَّ بها في حياته، أو لأقل إنني شخصياً كذلك. لكنني يومها فعلتها. تحدثت كيف أني كنت مرعوباً في الكثير من مراحل التحقيق، وتحدثت عن صلافة التعذيب وصراخي بصوتٍ أسطوري وأنا أتلقى الضرب بالكابلات، أو ترجّ جسدي لسعات الكهرباء. والأهم أني تورطت بالحديث عن الشوق القاتل للأبناء، وعن الحنين إلى أبٍ لم أره خلال كامل سنوات السجن، لأنه قال سيأتي للزيارة لو قبلتُ أن أراه منهاراً خلف الشبك المعدني، فأجبت إخوتي: دعوه لا يأتي. وتورّطت في الحديث عن حسَدي لنفسي، لأنني تيتّمت في فترة مبكرة، وأنني كنت، لحسن الطالع، بلا أمٍّ خلال سجني، لشدَّة ما شاهدت من دموع الأمهات على شبك الزيارة.

لا أعلم إلى الآن تماماً ما الذي سيظهر على الشاشة مما قلته، وما الذي لن يظهر، فأنا تحدثت قرابة ساعتين، ومدة البرنامج نصف ساعة. هل أشعر بالخوف أنني سأروي لمن لم أتعود أن أروي لهم حالاتي الشخصية في (ألعن) لحظات الضعف؟ أعتقد ذلك.

هل ما أشعر به الآن هو نتيجة طبيعية لجُبني الأصيل في أن أستطيع قَول نفسي كما أنا، دون أية مواربات ولا تحفّظ؟ يبدو لي السؤال معقولاً، ومع ذلك لا رغبة لدي للإجابة عنه. يعزيني إلى حدٍّ ما، في كل ما جرى، أن مُحاورتي في البرنامج قد أُسعِفت للمستشفى بعد انهيارها نتيجة الضغط النفسي أثناء إعداد البرنامج وإجراء المقابلات. وأنني كنت متماسكاً أكثر منها، ولم يحدث لي سوى نوبة النوم الهروبيّ تلك، وهذا القلق والخوف الذي أعيشه حالياً، منتظراً أن أرى نفسي على الشاشة وأنا أروي وأعرض هشاشتي للآخرين.