"يا حرية".. كل هذا الأسى

2018.04.06 | 11:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ليس صحيحاً اختزال المسألة السورية في أن السلطة الحاكمة في دمشق مستبدّة. الصحيح هو توصيف نظام الأسد بما ينفرد به عن أنظمةٍ عربيةٍ أخرى، وهو أنه نظامٌ متوحشٌ، ولا حساسية لديه بشأن قتل السوريين وازدراء حقهم في العيش الآمن. وأسوأ المماحكات أن تتورّط فيها مع فلاسفة الدفاع عن الوطن والدولة في سورية، وأساطين التصدّي للإرهابيين، فيتمنّن هؤلاء عليك باتفاقهم معك في أن نظام الأسد غير ديمقراطي. هذا احتيالٌ، فلم تكن القضية أبداً مع هذا النظام أنه غير ديمقراطي، وإنما أنه متوحشٌ. لا يريد أولئك أن يعرفوا هذه "الميزة" فيه، فيؤثرون اللتّ والعجن في عوارض طارئة. لا يريدون أن يدركوا أن ما يرتكبه هذا النظام في السوريين، منذ أزيد من أربعين عاماً، يجعله قوة احتلال في البلد، فلا يعود نظاماً وطنياً كما يتوهمون. ولذلك، أشواق الشعب السوري هي الاستقلال الثاني لوطنه، فيتحرّر من هذا النظام.
يفتح هذه السيرة هنا برنامج "يا حرية" على شاشة تلفزيون سوريا. برنامجٌ متقنٌ مهنياً، لم تبادر أي فضائيةٍ عربيةٍ إلى عرض واحدٍ مثله بتتابعٍ أسبوعي. يتحدث في كل حلقة ناجٍ من سجون الأسدين، الأب وابنه، بعد أن سُرقت من عمره أعوامٌ فيها، وذاق في أثنائها ألواناً من التعذيب والتوحش والقهر، يجعلك الإنصات إلى تفاصيل عنها، بعد أن تتعوّذ وتحوقل مرات، تزداد ثباتا على قناعتك بأن السوريين، عندما انتفضوا في هبّة ثورتهم، كانوا يصنعون معجزةً، وأنهم فدائيون، وليسوا فقط متظاهرين وثائرين ساخطين. يشلع هذا البرنامج الشديد الحرفية، والعالي القيمة، وجدانَك، وأنت تستمع إلى الضحايا الناجين، عن مطلبهم أن يعرف السوريون العدالة في بلدهم، ولا شيء آخر. وأنهم لم يتمكّن فيهم الشعور بالانتقام من جلاوزة التعذيب الشرسين في أقبية الاحتجاز والاختطاف. 
تحتاج إلى أن تضع أعصابك في ثلاجةٍ، لتحتمل إنصاتك إلى محمد برّو، يتحدث عن ثبات لحمٍ من الضحايا السابقين على جدران زنازين سجن تدمر، ممن قُتلوا في جائحةٍ مهولةٍ فيه. يقول إنه، وكثيرين معه، كانوا يَغبطون من يتم إعدامه. يحسدونه، لأنه ارتاح من التعذيب الذي لا تتوقف "حفلاته"، وقد حدث أن سجناء ماتوا في أول "حفلة". يتحدّث برّو الذي انتزعوه من منزله في حلب إلى السجن، وعمره أقل من 18 عاماً، وأنه حظي بأول مرآةٍ هناك لمّا صار عمره 28 عاماً، فلم يتعرّف على وجهه في عشرة أعوام. وكما تحدّث محمد برّو عن التعذيب بالكرسي الألماني، وعن فظاعاتٍ أخرى، أفضى مالك داغستاني بتفاصيل من تسع سنوات، في سجون حمص وصيدنايا وفرع فلسطين. وجاء حديثه بالغ الحرارة، ليس فقط عن التعذيب بطريقة الدولاب، بل أيضاً عن الموت بوصفه حالة نجاة، وحلماً في زنازين حافظ الأسد.  وأيضاً عن اشتهائك أن تصير فأراً تدخل في ثقبٍ ما، لتنجو ممن تدبّ أقدامهم بين المهاجع، وعن الضابط الذي سمع من مالك تركه حزب العمل الشيوعي منذ سنتين، فيأمر العساكر بأن يضربوه (مالك) لأنه ترك الحزب. 
الجديد في برنامج "يا حرية" كثيرٌ وثقيل، لأنه عملٌ تلفزيونيٌّ لا يكتفي بتقديم شهادات المستضافين، فهذا تقليدي، وإنما يوازيها بإيضاحاتٍ موجزةٍ ورسومٍ وغرافيكيات عن أماكن الاحتجاز، والأهم بالتقاط الأسى الشفيف في نفوس المتحدّثين وأفئدتهم وجوانحهم، ما يجعل ما تسمعه وتشاهده تحدِّياً حقيقياً لملكات الخيال، ماركيزيةً كانت أو بورخيسيةً أو ماغوطيةً أو .... يُثبت البرنامج الحقيقة المنسيّة عن مجاوزة الواقع سقوف المتخيّل، في مواطن الهتك الإنساني والحكم الكاريكاتوري. وقد حافظت سلطة الأسد الابن على هذه الشمائل في سجونها، كما ينطق بذلك الأسى المرّ الذي شفَّ في حديث باسل هيلم في حلقةٍ معه. شرح عن التعذيب بقشاط الدبابة في سجن صيدنايا، وقال ما قال عن القهر وعن سوق المساجين مربوطين بالجنازير من مطرحٍ إلى آخر، وعن التعذيب بالماء الساخن. أما فدوى محمود فقالت إن سورية كلها معتقلة، وإن صفعة أخٍ لها مسؤول في الأمن السياسي في أثناء تحقيقٍ معها كانت أشدّ قسوةً من كل عذاب..
أي إيجازٍ عما اشتملت عليه أربع حلقات من "يا حرية" سيكون مخلاً. وهو ليس مهمة هذه السطور، وإنما التنويه إلى أهمية مشاهدة البرنامج، ومتابعته أسبوعياً، سيما وأن فيه حضوراً وفيراً للأخلاقي والفرداني والإنساني. أتقنت معدّته والمحاورة فيه ومنتجته، سعاد قطناني، عملها، وبإشراف أنس أزرق، وإخراج هشام الزعوقي، صنعوا جديداً مهماً.