وهم التفاؤل بصحوة عربيّة!

2019.01.09 | 00:01 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تسودُ المنطقةَ أجواءٌ متباينة تدور بين شدّة اليأس والإحباط من جهة، وبعض التفاؤل بصحوة عربيّة من جهة ثانية. لكلتا الحالتين مبرراتها بشكل عام، وإن كانت عوامل الأولى منهما أكثر قوّة وأشدّ رجاحة.

ثمّة من يحاول أن يقرأ التفاهمات الروسيّة الأميركيّة في سوريا، على أنّها مؤشّر على بداية انفراج الوضع السوري، بل والوضع في المنطقة عموماً، ويرى أصحابُ هذا الرأي أنّ إخراج إيران من المنطقة سيكون ثمناً نهائيّاً لهذا التفاهم. كما يذهب البعض منهم بعيداً في التفاؤل، ويعتقدون بأنّ حلفاً عربيّاً ما سيتشكّل أو هو قيد التشكّل لملء الفراغ الذي سيتركه خروج إيران من سوريا، وينظرون إلى عودة افتتاح السفارات العربيّة في دمشق، والدعوات لإعادة كرسيّ سوريا في الجامعة العربيّة للنظام، على أنّه احتواء لسوريا الدولة، وإبعاد لها عن النفوذين الإيراني والتركي على حدّ سواء، أي بعبارة أخرى، إبعادٌ لتيّارين قومييّن فارسيّ وتركيّ، يحمل كلّ منهما مشروعاً خاصّاً وينفّذه عبر أدواته المحليّة ذات الطابع الطائفي الأقلّوي بالنسبة للأوّل، وذات الطابع الديني الإخواني بالنسبة للثاني. يعتقدُ أصحاب هذا الرأي، وهم في الغالبيّة من أنصار الحلف السعودي الإماراتي، بأنّ التحالف العربي هذا قد أثبت جدواه في اليمن، وبالتالي فإنّه سينجح في سوريا أيضاً.

ثمّة من يعتقدُ أيضاً بأنّ الروس سيكونون القوّة الوحيدة المفوّضة في إدارة ملفّ الأزمة السوريّة، وذلك نتيجة لأمرين، أوّلهما قوتها الذاتية التي فرضتها بتدخّلها المباشر في سوريا، وثانيهما بسبب تفاهمها مع الإدارة الأميركيّة، أو على الأقل بسبب استطاعتها قراءة توجّهات الرئيس ترامب والعمل ضمن المساحة المشتركة الواسعة من تقاطعات المصالح بين الدولتين. بعضُ هؤلاء كان حتى الأمس القريب من قادة هيئة التفاوض الممثل النهائي -حتّى الآن- للمعارضة السوريّة. يرى هذا الفريق أنّ عمليّة الانتقال السياسي آتية لا محالة، وبضمانة

المصالح هي من يرسم حدود السياسات والتفاهمات بين الدول المختلفة، وعبارة مصالح تشمل بالدرجة الأولى مصالح الشركات العملاقة في الدول الصناعيّة أو مصالح الاحتكارات الكبرى العابرة للقارّات

وتعهّد روسيا. يستدلّ هؤلاء على ذلك بقرار الانسحاب الأميركي من سوريا، ويعتقدون بأنّه نتيجة اتفاق غير معلن بين الروس والأميركان. يشجّع هذا الفريق على اندماج موقف الدول العربيّة التي ناصبت النظام السوري – علانية – العداء، بموقف الأنظمة التي وقفت جانبه ودعمته منذ بداية الصراع، ويرون في هذا الأمر ضمانة لتقليص نفوذ إيران وتركيا في سوريا.

 يعتقد أصحاب هذا الرأي أنّ مصالح روسيا ستكون مع الحلف العربي الذي سيموّل عمليّة إعادة الإعمار، وليس مع حليفي أستانا اللذين هما في الحقيقة، وبما يمتلكانه من وجود ومن نفوذ كبيرين على الأرض السوريّة، منافسان قويّان للمصالح الروسيّة، وسيكون من مصلحة روسيا استبعادهما، أو على الأقلّ تحجيمهما قدر المستطاع.

لا شكّ بأنّ المصالح هي من يرسم حدود السياسات والتفاهمات بين الدول المختلفة، وعبارة مصالح تشمل بالدرجة الأولى مصالح الشركات العملاقة في الدول الصناعيّة أو مصالح الاحتكارات الكبرى العابرة للقارّات، تلك التي تتحكم بصناعة الأسلحة والتكنولوجيا، وتلك المسيطرة على الإعلام ووسائل التواصل الرقمي، وتلك المسيطرة على مصادر الطاقة من نفط وغاز، وعلى مصادر المواد الأساسيّة للحياة من قمح ورز وقطن وسكّر وبنّ وموز ...إلخ. كذلك تشمل عبارة المصالح هذه، المجالات الحيويّة للدّول التي يُطلق عليها تسميةُ مصالح الأمن القومي. فعلى سبيل المثال، كان الصراع خلال الحرب الباردة على أشدّه بين الاتحاد السوفيتي وأميركا لتوسعة هذا المجال لكلّ منهما، ولذلك كانت حروب الوكالة بدءا من حرب الكوريّتين إلى حرب فيتنام إلى حرب أفغانستان ثم العراق، والآن الحرب في اليمن وليبيا وسوريا، وكلّها في النهاية تعبيرٌ عن تضادّ المصالح الاقتصادية للدول المتحاربة.

تدخل علاقات الدول الوظيفيّة أو دول الأطراف والهامش، في هذا الصراع على المصالح، من خلال ما يمكنها أن تقدّمه وتساهم به ضمن السياق العام. فدولة مثل إسرائيل مثلاً، على الرغم من صغر حجمها، إلّا أنها أكثر فاعليّة من دول كبرى في المنطقة مثل العراق أو مصر أو الجزائر أو نيجيريا أو إثيوبيا، والسبب يعود إلى طبيعة الحكم في هذه الدولة وطبيعة الاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا من جهة، إضافة إلى طبيعة الدولة ذاتها، وظروف نشأتها والدعم الهائل والرعاية التامّة، التي تتلقاها من أميركا وأوروبا الغربيّة عموماً من جهة ثانية.

قد تأخذ أثيوبيا في المستقبل بالتوازي مع جنوب أفريقيا دوراً أكبر في هذا الصراع، فكلا البلدين يسير باتّجاه مصالحات وطنيّة داخليّة، ويسير باتّجاه التخلّص من أسباب التخلّف والعنصرية، ويسعى جاهداً للانفتاح نحو الذات ونحو الخارج، والخطوات التي تأخذها حكومة رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد علي، شبيهة من حيث الجوهر إلى حدّ ما، بالخطوات التي اتخذتها حكومة نيلسون مانديلا بعد سقوط نظام حكم الفصل العنصري.

بينما دولٌ مثل الجزائر والعراق ومصر أكثر غنى من حيث مصادر الثروات والموقع الاستراتيجي، لا تستطيع إلّا أن تكون تابعة وأداة لتنفيذ مصالح اللاعبين الآخرين وعلى حساب مصالحها الذاتيّة، والسبب يكمن في طبيعة الحكم الاستبدادي، أو الطائفي فيها. كذلك لا يمكن لدول أخرى في الخليج العربي أن تلعب أكثر من هذا الدور الهامشي، لنفس الطبيعة التي يتّسم بها نظام الحكم العائلي الملكي أو الأميري، أيّاً كان وصفه.

 العبرة في مدى المشاركة الشعبيّة في الحكم، والتي تتجلّى في إمكانيّة اختيار ومراقبة ومحاسبة الحكومات من خلال الأحزاب والانتخابات، وهذا الشكل العام لنمط الحكم، هو الذي يبني بطريقة أو بأخرى، حدود العلاقة بين مصالح الاحتكارات الرأسمالية والشركات الكبرى من جهة، وبين مصالح باقي فئات مجتمعات هذه الدول من جهة ثانية. أي بتعبير آخر، ثمّة حدٌّ أدنى من التوازن في العلاقة، خلقته حركة تطوّر هذه المجتمعات ونضالات شعوبها الطويلة، لتصل إلى حدّ أدنى من الكرامة الإنسانيّة والرفاهية، يجعلها قريبة نوعاً من حالة الاستقرار وبعيدة عن الخضّات الهائلة التي تمرّ بها مجتمعات الدول المحكومة بالاستبداد.

من هذا المنطلق، يبدو وهماً وسراباً أكثر منه حقيقة وواقعاً، هذا الرأي القائل بإمكانية تشكّل حلف أو قوّة، لتكون رافعة أو حاملاً لمشروع قومي عربي بمواجهة المشاريع

لقد ثبت بالدليل العملي أنّ دول "مُدُن الملحْ" هذه لا تمتلك حتى مقوّمات الدولة، بل هي مجموعة أنظمة هدفها الأوّل والأخير الحفاظ على السلطة بيد العائلة المالكة، مثلها مثل نظام الأسد

الفارسية والتركية والإسرائيلية في المنطقة. إنّ الخلل البنيوي في تركيبة هذه الأنظمة المحكومة بالاستبداد وبالفساد، يجعلها بحكم المنطق وبحكم طبيعة الأشياء، غير قادرة على إنجاز أي مشروع قومي جامع لمصالح الأمّة. إن كان خيرُكم خيركم لأهله، فإنّ عديم الخير لبلده ولأهله لا يمكنه أن يمنحه للغرباء، ففاقدُ الشيء لا يُعطيه.

وعلى فرض أنّه تمّ تشكيل مثل هذا الحلف، تنفيذاً لما تكلّم عنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب وأسماه "ناتو عربي" فإنّه سيكون عاجزاً عن الوقوف بوجه المشروعين التركي والإيراني، ولن يضرّ أبداً بمصالح المشروع الإسرائيلي، هذا إن لم يكن خطوة كبيرة باتّجاه تحقيقها. لقد ثبت بالدليل العملي أنّ دول "مُدُن الملحْ" هذه لا تمتلك حتى مقوّمات الدولة، بل هي مجموعة أنظمة هدفها الأوّل والأخير الحفاظ على السلطة بيد العائلة المالكة، مثلها مثل نظام الأسد تماماً مع فارق بسيط بالأدوات المتوفّرة والممكن استخدامها.

بهذا الشكل، سنكون أمام تمدّد إيراني كبير وواسع الانتشار في المجال الحيوي العربي، وهذا المشروع لديه الكثير من الأنصار والأعوان الداخليين. كذلك سنكون أمام نفوذ تركي مغاير بالأسلوب والأهداف، ولديه الكثير من الوسائل والأعوان المقتنعين بمشروع الخلافة والمخلصين له فكريّاً. أمّا إسرائيل فلن تكون بحاجة لهؤلاء، لأنّ ذراعها الطويلة قادرة على التحكّم برؤساء هذه الأنظمة جميعاً، وبالتالي فحقوقها محفوظة ومصالحها مصانة.

سيكون الغائب الأكبر عن الساحة، والخاسر الأكبر من تناحر المشاريع، سكّان هذه المنطقة وشعوبها المغلوبة على أمرها. بعد أن جرّبت هذه الشعوب المنكوبة أن تقول لا وكفى لهذا الطغيان، وبعد أن ذاقت مرارة القتل والتهجير وتدمير المدن والقرى وتمزيق المجتمعات، فإنّها ستكون بين مطرقة المشاريع الخارجيّة، وسندان الأنظمة الاستبداديّة، وسيكون عليها أن تلتقط أنفاسها أوّلاً، ثم أن تتدبّر أمر البحث عن طرق جديدة للخلاص من القهر، والبدء بطريق جديد قد يلحقها بركب الحضارة الإنسانية، ولا بدّ أنّها ستفعل، فهي "محكومة بالأمل".