وليد سيف: حياة مع الدراما

2020.01.30 | 23:03 دمشق

wlyd_syf.jpg
+A
حجم الخط
-A

برع وليد سيف في كتابة النصوص الدرامية للمسلسلات التاريخية. لقد قدم نصوصاً في لغة رائقة ووصف ممتع وتأملات تصل إلى أن تكون نظرات بديعة في فلسفة التاريخ وصعود الشخصيات التاريخية وانهيارها. في ذاكرة جيلي محبة لنصوص ربيع قرطبة وصقر قريش وملوك الطوائف. ويذكر لوليد سيف كذلك تفننه في مسلسل عمر، فضلاً عن مسلسل التغريبة الفلسطينية.

توجه وليد سيف للدراما التاريخية بعد أن شعر بالملل من العمل في التدريس الجامعي وضاق ذرعا به في عام 2007. ونراه في مذكراته "الشاهد المشهود" يتساءل كيف أن مصيره الشخصي، وهو ابن هذا الزمان قد ارتبط بصراع الأمويين والعباسيين وفرار عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، وبعد زهاء ألف وأربعمئة سنة يقرر كاتبنا أن يؤلف مسلسلاً درامياً عن سيرة الأمير الشريد.

كانت بداية عمله في الكتابة الدرامية عام 1978 عندما توسع الإنتاج الدرامي والتلفزي خارج مصر، وتصدرته مؤسسة الخليج للأعمال الفنية في دبي بالأمارات العربية المتحدة. وقد كان هناك نقص فادح في كتَّاب الدراما، وجاءه عرض وافق هوى في نفسه ومنزعاً قوياً لهذا النوع من الكتابة، فكان مسلسل الخنساء الذي أسس نجاحه الباهر، رغم ضعف الإمكانيات الإنتاجية والفنية في ذلك الوقت. وهو يؤكد أن مدخله إلى الكتابة الدرامية التلفزية كان من باب الأدب منذ اللحظة الأولى، ولم يخامره الشك في إمكانية الدمج بين المستوى الأدبي والتقنيات البصرية.

أما بخصوص اللغة فقد قرر منذ اللحظة الأولى ألّا يتنازل عن المستوى البلاغي الأدبي وفقاً لمقتضيات الموقف الدرامي والعصر الذي تدور فيه الأحداث. وهو يرى أن التعريف القديم للبلاغة بأنها "موافقة الكلام لمقتضى الحال" صحيح ومفيد لمن يكتب النصوص التاريخية، وليس من المعقول أن نُنطق شخصيات العصور التاريخية بأسلوب عصري يحاكي لغة الصحافة مثلاً فنأتي بعبارات معاصرة ترد في الدراما التاريخية فتفقد العمل رونقه. وينبهنا إلى أن من أوتي حساً لغويا أسلوبياً مرهفاً، وكان له ألفة طويلة بالمصادر القديمة، يلتقط ما هو أخفى من هذه العبارات المعاصرة الفجة. هناك كلمة مثل "أرجوك" والكلمة لها اشتقاقات قديمة وراسخة، إلا إنه يوضح أننا لن نجد في نص قديم من يستفتح الطلب بالمصدر "رجاء" كما نفعل الآن، وقد تكون كلمة "نشدتك الله" أكثر دقة على لسان الأبطال في الدراما التاريخية.

وفي أحد أعماله التاريخية تصرف المخرج في أحد المشاهد لضرورة إنتاجية، فاستخدم الممثل كلمة "يا أبي" ويعلق وليد سيف أنه لا غبار على الكلمة، ولكنه ما كان ليكتبها أبداً. فالأقرب إلى الأساليب القديمة أن يقال: يا أبتِ! فهي أكثر انسجاماً مع لغة النص. ويرى كاتبنا أنه يمكن استعمال المفردات الغريبة بشرط دمجها في السياق فمثلا كلمة ورهاء، يكفي أن ترد في سياق الشتيمة: أيتها الحمقاء، الخرقاء، الورهاء! والسياق هنا يتكفل بالإضاءة على دلالة المفردة. ولو أنه أنطق شخصياته في مسلسل التغريبة بالفصحى لأفسدت صدقيتها وقدرتها على الإقناع.

لكن، ليس بالأسلوب اللغوي وحده يقوم الأدب السردي الدرامي، فهناك المعالجة الدرامية، وإذا كان الصراع عنصراً أساسياً فإن هذا الأمر لا يتحقق بالشخصيات المسطحة ذات البعد الواحد. وهنا يتساءل كاتبنا كيف يتطور الصراع إذ استقرت الشخصيات من أول العمل إلى آخره على بعد واحد، فهي في آخر أمرها كما هي في أوله، فإما شر مطلق وإما خير مطلق. ولقد سره دائماً أن يرى الناس تختلف في تقويم الشخصيات الأدبية والتاريخية التي يكتب عنها، وكل منهم يأتي بحجة لها أو عليها.

يشرح وليد سيف أسئلة الدراما التاريخية التي تواجه من يتخذ هذا النوع من الكتابة

يشرح وليد سيف أسئلة الدراما التاريخية التي تواجه من يتخذ هذا النوع من الكتابة، ويشرح لنا الأفكار التي تشكلت لديه عن تجربة عبد الرحمن الداخل وكيف حقق الداخل حلمه العظيم لكن الثمن الأخلاقي كان فادحاً. وهكذا تتحول أسئلة صحة وخطأ الحدث التاريخي إلى أسئلة وجودية من نوع أسئلة المصير والحرية والإرادة والسلطة والتدافع الإنساني والتنازع بين الضرورة والأخلاق.

 ويشرح لنا عملاً قديماً كتبه في مطلع الثمانينيات عن الشاعر الجاهلي "طرفة بن العبد" أحد أصحاب المعلقات الشهيرة، والذي انقصف عمره في ريعان شبابه مصلوباً على جذع نخله في موطنه في هجر والبحرين، بأمر من عمرو بن هند ملك الحيرة لعامله على تلك الديار، ولذلك لقب "طرفة" بالغلام القتيل، وهو شاعر يمكن أن تجمع أخباره في بضع صفحات، لكن المعالجة الدرامية التاريخية تقتضى الكشف عن مفاتيح الشخصية، وتبين للكاتب وليد سيف أن أزمة "طرفة" الوجودية هي التنازع الخالد بين فردية الإنسان وانتمائه الجمعي، وهي مسألة تتعلق بسؤال الحرية. ولقد ضاق "طرفة" بتقاليد القبيلة وإملاءاتها التي تقيد حريته، فغلَّب حريته الفردية وجازف بالعواقب.

ومَا زَالَ تَشْرَابيِ الخُمُورَ ولَذَّتيِ

وبَيْعيِ وإِنفاقيِ طَريفيِ ومُتْلَدي

إلى أن تَحامَتْنيِ العَشيرةُ كلُّها

وأُفْرِدْتُ إِفْرادَ البَعيرِ الـمُعَبَّدِ

ويحلِّق بنا وليد سيف في قصة حياة طرفة وبحثه عن فهمها وقصة موته، ذلك أن الكتابة التاريخية هنا تصبح قراءة بعيون الباحث المدقق ونقلاً للأحداث الصغيرة إلى إشكاليات قد تتكرر مع أشخاص آخرين في أزمنة أخرى مختلفة. ويشير أيضا إلى الصعوبات التي تواجه الكتابة التاريخية من إمكانيات، وكيف أنه عرض عليه وثائقي عن صلاح الدين بشرط إزالة المعارك من النص تجنباً لضخامة التكاليف، لكنه رفض العرض وهو يفكر كيف يكون هناك صلاح الدين بلا حطين، حتى أذن الله بتحقيق أمنيته بعد ثمانية أعوام من هذا الموقف، فكان مسلسل صلاح الدين فاتحة تعاونه مع المخرج السوري حاتم علي.

ويحكي لنا على أنه لم يخل عمل من أعماله الدرامية من مواقف وجد نفسه يتماهى مع أبطالها ويستحضر فيها شيئاً من مزاجه وتجاربه الداخلية، ففي مسلسل صلاح الدين الأيوبي توقف في مرحلة الكتابة عند علاقة صلاح الدين الأيوبي بعمه شيركوه الذي قدمه على أبنائه. وجد كاتبنا نفسه يستحضر علاقته بعمه محمود، فألقى على معالجته لذلك الجانب من القصة قبساً عاطفياً من حياته، أو أنه عندما كتب أحد المشاهد في مسلسل ربيع قرطبة والتي يترافع فيها محمد بن أبي عامر أمام صبح أم ولد الخليفة الحاكم المستنصر، فقد كان يتحدث بلسان هؤلاء الذين يجدون في الحلم والخيال فرصة للبعد عن إثم الجوارح. وثمة أثر من سيرته الذاتية وسيرة أسرته في بناء شخصيات مسلسل التغريبة، فلقد عانت أسرة جده في باقة الشرقية من بعض ما عانت منه أسرة صالح الشيخ يونس (أبو أحمد) في المسلسل، وهكذا تنبث حياة الكاتب وسيرته في نصه السردي، فيوزع نفسه في نفوس كثيرة من أبطال عمله الأدبي والدرامي، يلخص لنا وليد سيف تجاربه مع تلك الشخصيات ويقول:

"غزوت إذ غزا أمير الصعاليك عروة بن الورد، وبكيت إذ بكت الخنساء أخاها صخراً وأعقبني البكاء فرجاً، وصعدت مع شجر الدر إذ صعدت ولم أهبط معها إذ هبطت، وصحبت صلاح الدين الأيوبي في تحرير القدس فنلت حظاً من مغانم نصره في حياتي الشخصية، وقطفت في ربيع قرطبة بعض ما قطف المنصور بن أبي عامر دون أن أبيع روحي لشيطان السلطة الغوية، وخرجت من عصر الطوائف بخير مما خرج به المعتمد بن عباد إلى منفاه البئيس في أغمات! بل تقلب مصيري مع تقلب مصائر هؤلاء وغيرهم".

كلمات مفتاحية