وليد أباظة: في خدمة السيد

2019.02.04 | 00:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في شتاء 1953 وصل طيار برتبة مقدم إلى الكلية الحربية بحمص واجتمع بطلابها ليبلغهم أن قيادة الجيش قررت إنشاء كلية جوية، وليعرض على من شاء منهم الانضمام إليها فوراً. بعد أيام سيُنقل من تقدموا بطلباتهم واجتازوا الفحص الطبي. كانوا خمسة عشر، بينهم الطالب الضابط حافظ الأسد من القرداحة، ورفيقه مصطفى طلاس الذي سيعود إلى اختصاصه في الحربية من جديد. وفي حلب، حيث يقع المطار الذي سيكون مقر الكلية الجوية المحدثة، سيتعرف الاثنان إلى ممدوح حمدي أباظة من قرية الغسانية قرب القنيطرة في الجولان، من أصول شركسية.

ستتعمق علاقة «أبناء الدورة» مع الأيام، وستنشأ «شلة»، وسيصبح حافظ وممدوح صديقين يتبادلان الزيارات خارج الكلية وبعدها. حتى قيل إن سباحة الشباب الشهيرة في بحيرة طبريا، والتي سيخبر الأسد الرئيس الأميركي بيل كلينتون عنها في جنيف وستكون سبباً في انهيار مفاوضات السلام مع إسرائيل بعد تمسك السوريين بالوصول إلى مياه البحيرة؛ جرت أثناء زيارة دعا فيها ممدوح زميله إلى منطقته للتجول فيها، وإلى منزل عائلته للتعرف إليها، وخاصة أباه الصلب.

على كل حال، ما هو مؤكد أن مقترح «الخطيفة» طُرح أول مرة بين الضابطين الشابين وهما يتبادلان الأخبار والنجوى، بعدما أبلغ الأسد زميله بتعنت والد معشوقته، أنيسة مخلوف، في رفض اقترانهما. «الخطيفة» هي شكل الزواج الشائع المتوارث بين الشراكس، وهي لا تعني الخطف عنوة، بل «انتزاع» الشاب عروسه رمزياً من بين أهلها بعد أن يكونا قد تفاهما واتفقا طوعاً على الزواج. وهو ما سيفعله الأسد، كما هو معروف، مستعيناً بصديقه ممدوح الذي اصطحب معه لذلك شقيقه الأصغر شرف.

بعد أن صار رئيساً لن ينسى الأسد معروف الاثنين. سيحافظ على مكانة ممدوح وترقيته ومنحه الأوسمة حتى يُقتل، برتبة لواء، بتفجير مبنى آمرية الطيران الذي نفذته «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» بدمشق عام 1981

بعد أن صار رئيساً لن ينسى الأسد معروف الاثنين. سيحافظ على مكانة ممدوح وترقيته ومنحه الأوسمة حتى يُقتل، برتبة لواء، بتفجير مبنى آمرية الطيران الذي نفذته «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» بدمشق عام 1981. أما شرف «فسيُنتخَب» لعضوية «مجلس الشعب» لثلاث دورات. غير أن وزن العائلة وشهرتها سيتركزان أساساً في يد شقيق ثالث.

عام 1978، وقبل أن يبلغ الثلاثين، عيّن الرائد وليد رئيساً لفرع الأمن السياسي بحماة، ليشهد تمرد المدينة المتصاعد ويشارك في إخماده بعنف في شباط 1982، ثم التعامل معها كمعسكر كبير للأسرى المشكوك في أمرهم، طوال عقدين لاحقين سيقضيهما وليد فيها يمتلك سلطة تفوق ما لدى نظرائه في الأجهزة الأخرى. حتى نقل إلى إدارة الأمن السياسي بدمشق نائباً لرئيسها، ثم مديراً لمكتب وزير الداخلية غازي كنعان وشاهداً على «انتحاره» الذي ينسب الكثيرون إلى أباظة الشرس أمر تنفيذه.

لفهم وليد أباظة علينا أن نعود إلى «الأديغا خابزا»، وهي دستور العادات والأعراف الشركسية المتناقل شفوياً والحاكم بسطوة. فعبر آلاف السنين التي قضاها سكان القفقاس محاربين تشكلت حياتهم بالاستناد إلى شخصية المقاتل وتمحورت حولها. شكلت هذه الشخصية الذكورية نوعاً من «ساموراي الغرب» كما يصف، ببراعة ودقة، محاضر أميركي من أصول شركسية. تعني «ساموراي» باليابانية «الذي يضع نفسه في الخدمة». ومثله، وجد المقاتل الشركسي نفسه دوماً في خدمة سيد تنصبّ لصالحه قيم الشرف والرجولة والطاعة والولاء والتضحية وتحريم الخيانة.

وبفعل هذين العاملين، شخصية المحارب والإخلاص للقائد، صار مهجّرو القفقاس جنوداً مفضّلين في الجيش العثماني؛ عساكر في جيش المشرق الذي أسسته سلطات الاحتلال الفرنسي؛ حرساً للملك في الأردن؛ وضباط جيش ومخابرات بنسبة ملحوظة لدى حافظ الأسد وابنه، «سيّدي» الوطن.

لفهم وليد أباظة علينا أن نعود إلى «الأديغا خابزا»، وهي دستور العادات والأعراف الشركسية المتناقل شفوياً والحاكم بسطوة

لا يمكن القول إن «الأديغا خابزا» قد احتفظت بقوتها الكاملة حتى قيام الثورة، فلا شك أنها ضعفت قليلاً مع انتشار التعليم ونمط الحياة الحديث. لكن المؤكد أن النقاش عن سلوكات القائد الوحشية، وعما إذا كان الانحياز إلى مطالب باقي السوريين يعدّ «خيانة» له، قد جرى جدياً بين شراكس سوريا الذين لا يتجاوز عددهم المئة ألف ووجدوا أنفسهم في مأزق الأقليات، ففضّل معظمهم صمتاً يضمر عدم الرضا، وانخرط بعضهم في الثورة وقدموا شهداء ومعتقلين، بينما استطاع النظام توريط عدد أكبر في عمليات القمع، وهنا سيلعب وليد أباظة دوراً رئيسياً.

كان العميد المتقاعد يقيم في فيلا بضاحية «قرى الأسد» قرب دمشق، زائد العصبية بفعل الفراغ، يدخن بشراهة ويقلّب قنوات التلفزيون، عندما تكرم ابن السيد وأعاده إلى الخدمة. لم يشعر أباظة بالاستياء أو بالاعتداد لأنه من رجال الأب، بل بالامتنان لبشار الذي تذكره من جديد بالمهمة السابقة نفسها؛ الإمساك بورقة الشراكس وتسخيرها للنظام ما أمكن.

يروي بعض من عرفوا وليد، أثناء عمله في الأمن السياسي، أنه كان يدير منظومة خدمة سرية (شبكة مخبرين) خاصة منفصلة عن وظيفته في الجهاز. كانت تتلقى تمويلها من القصر الجمهوري وترفع تقاريرها إليه، وتكونت من ضباط وموظفين مدنيين من الشراكس من السهل على أبو خالد تجنيدهم أو إقناعهم بتقديم «خدمة» لقاء بابه المفتوح لطلباتهم في التعيين والنقل والترفيع... إلخ. وهو ما استعان فيه بأخيه الذي أصبح «الدكتور شرف» بعد إفراج السلطات التركية عنه بعد مطالبةٍ على أرفع المستويات. وكان قد اعتقل، إبان دراسته الطب في إسطنبول، بتهمة التعامل مع الأمن السوري، وهو ما لم يكن بعيداً عن الحقيقة. وبعد عودته بمدة ترأس الجمعية الخيرية الشركسية لما يقرب من عشرين عاماً، وحوّلها من شقة شبه مهملة للرقص الفولكلوري وعزف الأكورديون إلى ما يشبه حزباً للشراكس، بفروع في المدن التي يوجدون فيها، وعلاقات مع الجمعيات المماثلة في بلاد المهجر الشركسي وبينها الولايات المتحدة الأميركية، وتواصل مع روسيا ودول الوطن الأم، ودور في التزكية للمناصب والترشيح للوظائف والإيفاد للدراسة. وذلك كله بالتعاضد مع شقيقه النافذ.

كان العميد المتقاعد يقيم في فيلا بضاحية «قرى الأسد» قرب دمشق، زائد العصبية بفعل الفراغ، يدخن بشراهة ويقلّب قنوات التلفزيون، عندما تكرم ابن السيد وأعاده إلى الخدمة

يقول سومر شروخ، وهو شاب استطاع، بتكليف من الجيش الحر، التطوع في كتيبة «جواد أنزور» التي أنشأها وليد وابنه خالد لتجنيد الشراكس عام 2013؛ إن الإقبال عليها كان ضعيفاً جداً فلم يتجاوز عدد أفرادها 16 عنصراً، بعضهم ليس فوق مستوى الشبهات، لكن الرجلين بقيا مصرّين. فآل الأسد عند الأب محل إيمان حقيقي منذ أن التحق بخدمتهم في الوحدات الخاصة ثم في سرايا الدفاع، رغم أن هذا لم يدفعه إلى الانحياز إلى قائد هذه الأخيرة، رفعت، أثناء خلافه مع شقيقه «السيد» الرئيس. فضلاً عن شعور وليد بالرغبة في الثأر الشخصي بعد قتل الثوار ابنه الشاب أنزور، المهجوس بحزب الله وبقائده وبرموزه، والذي مارس التشبيح المسلح في دمشق وريفها. ليضاف ذلك إلى فاجعة كانت الأسرة قد عاشتها، قبيل الثورة، بفقد ابنها الأصغر أصلان الذي أطلق على نفسه النار وهو يلعب، مع أقرانه من أبناء مسؤولين متوسطين، الروليت الروسية بأحد مسدسات أبيه. أما خالد، وقد أصبح الابن الوحيد الآن، فصار أمل العائلة، وأخذت أحلام التحول إلى «تحماتة» (زعيم) تراود طبيب الأسنان الأربعيني هذا.

فشلت الكتيبة، رغم تلقيها تدريباً من الحرس الثوري الإيراني في أحد مقرات الحرس الجمهوري على أطراف دمشق. لكن آل أباظة استطاعوا تجنيد آخرين بعد انهيارها، وبأعداد أكبر، دون تسمية فصيل شركسي هذه المرة، والاكتفاء بالقتال تحت مظلة أحد التشكيلات القائمة، حتى معارك السيطرة على القنيطرة وخاصة على القرى الشركسية فيها.

ولكن لا بد أن تأتي الخيانة من مكان ما!! إنها ابنة شقيقه سالينا، الوحيدة التي أحرجته

توفي وليد عام 2017 بعد إصابته بالسرطان، غير أن عالمه لم يمت بعد. فمنذ أيام شارك شقيقه شرف في مراسم إقامة تمثال له في سوخوم، عاصمة أبخازيا الوطن الأم للأباظات. هناك، حيث تسيطر روسيا، لا أحد يهتم لدماء السوريين التي سالت على يد الجنرال الذي يكرمونه واقفين أمام صورته بإجلال. وهنا تستمر وراثته: ابنه خالد بمنصب أمين فرع حزب البعث في القنيطرة، وزوجته جانسيت قازان عضواً في «مجلس الشعب»، وأحد الضباط الذين تبناهم عبر مسيرته، اللواء حسام لوقا (ينالوقة)، على رأس إدارة الأمن السياسي.

ولكن لا بد أن تأتي الخيانة من مكان ما!! إنها ابنة شقيقه سالينا، الوحيدة التي أحرجته عندما توسط للإفراج عنها بعدما شاركت في حملة «أوقفوا القتل، نريد أن نبني وطناً لكل السوريين»، ولن يرتاح قبل خروجها بسرعة من البلاد.

عندها ربما هز العميد الغاضب رأسه وفكر: «أوقفوا القتل؟! يا للنساء!».