ولا يزالون مختلفين

2021.09.06 | 06:08 دمشق

128.jpg
+A
حجم الخط
-A

ينحو كثيرون إلى اعتبار تفرق الناس على مذاهب فكرية وعقدية واجتماعية، ظاهرةً طارئة وخطيرة، فترى بعضهم ينتقد الاحتكاك بالدول الغربية وثقافتها المختلفة، وآخرون يعزونها للقفزة التكنولوجية الهائلة، وأدواتها، وما نتج عنها من اجتياح وسائل التواصل والإعلام الجديد في كل بيت وكل فرد.

ومنهم من يتهم الثورات العربية وما نتج عنها من تصاعد لمنظمات المجتمع المدني، ومنظمات حقوقية، ودعوات منظمة لحركات إلى حد ما طارئة في مجتمعاتنا العربية كالحركات النسوية، وغيرها من الحركات المناهضة للدين ومظاهر التدين، وغيرها كثير.

بتصوري على الأقل لِمَ لا؟ وما المانعُ من ذلك..

يا صديقي متى كانت الدنيا بلون واحد، وعلى صراط واحد، وعلى منظومة واحدة؟ الناس مختلفون وسيبقون كذلك فلا ترهق نفسك في هذه الدوامة.. لم يجتمع الناس على نبي بل لم يجتمعوا على الإيمان الله بطبيعة الحال.

لا شك في أن هناك حقاً وباطلاً وصواباً وخطأ، والصراع بينهما أزلي، ومن حق كل طرف أن يعتقد صوابية اختياراته وأن يدافع عن رأيه ومعتقداته

لِمَ علينا أن ندخل معركة لا تنتهي؟! ولن نخرج منها سوى بتعميق الصراع، وتجاوز تأثيره إلى مواطن العلاقات الشخصية والاجتماعية وبيئات العمل، وربما تجاوزناها إلى الصراع على الحقيقة والقتال على بقعة وطن.

لا شك في أن هناك حقاً وباطلاً وصواباً وخطأ، والصراع بينهما أزلي، ومن حق كل طرف أن يعتقد صوابية اختياراته وأن يدافع عن رأيه ومعتقداته، والقصة هنا، أن نضع تحت كلمة يدافع ألف خط، وننتبه للخلط بين معنى الدفاع ومعنى الاعتداء.

الدعوات الدينية التي خاضها الأنبياء جميعا لم تتعدَ طرحَ السلمية بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يتجاوز أحد منهم هذا الإطار إلا في حال الدفاع المشروع عن الدين والعرض والأرض، وكل تحريف يطول هذه الحقيقة يحتاج إلى تقديم دليل صريح، حتى لا نخوض في مسائل منبعها الهوى والمناكفات.

وهذا لا يعني توقف النقاش بأي حال حتى في الحقائق الصريحة.

المسألة أيها السادة في بيان الحقوق، ومعايير الرفض أو القبول، وهذا تصوغه المجتمعات السليمة، والتي تؤسس لبناء قوام الدولة المُمَكنة، فالدولة بالمفهوم العام هي عبارة عن بقعة جغرافية، يقطنها مجاميع من الناس توافقوا طواعية أو اضطراراً على عقد اجتماعي يحقق الحد الأدنى من المصالح الممكنة لجميع مكوناته، ويسعى من خلال الشد والجذب إلى تحقيق معايير الحرية والعدالة والمساواة بين جميع مكوناته العرقية والدينية والإثنية، تحت سقف الدستور الذي توافق عليه الناس، وحراسة القانون الذي أقرته النظم القانونية والحقوقية المعتبرة.

هذا التكوين المنتظم لا يعني أنه يتوافق بأفكاره ومعتقداته حكماً، والاختلاف لن يتوقف، لكنه لن يتجاوز حدود القانون وسلطة الفصل والقضاء، وما دون ذلك يعني وجود خلل خطير يمهد لتدمير بنى الدولة والمجتمع.

عودٌ على ذي بدء.. متى يصبح الاختلاف خطيرا؟ عندما يتجاوز العقد الاجتماعي ولا يعنيه القانون، ولا تثنيه هُوية المجتمع وثقافته، وعندما يجعل من نفسه إلهاً للحقيقة وعبداً للإيديولوجيا التي توظفه في مواجهة مجتمعه وأسرته وأقرب الناس إليه.

متى كان الاختلاف طارئاً، والتاريخ يذخر بالحروب الدينية والإيديولوجية والقومية والعشائرية، وفي البيئات الاجتماعية على اختلاف أنواعها

هذه الفوضى التي لا تنتهي معاركها، وكأن كل واحد فينا هو الوصي على الحقيقة المطلقة، يستمر دخانها حتى تصبح ناراً حارقة لا تبقي ولا تذر، وسيكون الاضطرار لرفع السلاح في مواجهة الأخ لأخيه في الإنسانية وفي الدين والمذهب الواحد.

ثم متى كان الاختلاف طارئاً، والتاريخ يذخر بالحروب الدينية والإيديولوجية والقومية والعشائرية، وفي البيئات الاجتماعية على اختلاف أنواعها، إلا أنه أخذ طابع الانتشار علانية وبشكل لم يعد بالإمكان ضبطه، أو السيطرة عليه في هذا الفضاء المفتوح، وربما هذا ما يثير حفيظة المتعصبين من جهة  والغيورين من جهة أخرى، ولو نظرنا للأمر بعين العاقل لتبددت معظم هذه المخاوف ببساطة، فالتعامل ممكن مع أي حالة، وإلا لم تكن لتتجاوز غمارها دول عديدة عانت من حروب المختلفين ودفعت أثماناً باهظة، حين بدأت تفكر بعقلية الدولة الحديثة، التي تعاملت مع الاختلاف على أنه حقيقة موجودة ومنتشرة لكنها طوت صفحته من خلال احتوائه بين قوسي مصالح الدولة والمجتمع، وضبط تجاوزاته بين مزدوجي حدود الحرية، فجميع أفراد المجتمع يعرفون حقوقهم ومساحة حريتهم، والتجاوز يعني المساءلة القانونية.