وقفة مع فاضل السباعي

2020.12.03 | 23:27 دمشق

1606412166412921300.jpg
+A
حجم الخط
-A

حينما بدأت الكتابة الأدبية والصحفية، في مطلع الثمانينيات، فكرت بأمرين، الأول، استمرار إقامتي في إدلب، فما أعرفه أن معظم أدباء سوريا المنحدرين من أصول ريفية غادروا قراهم ومدنَهم الصغيرة إلى دمشق غالباً، وبنسبة أقل إلى حلب وحمص واللاذقية. لست أدري إن كان هذا أحسن للكاتب أو أسوأ، ولكنني اخترت أن أكون كاتباً شعبياً ساخراً، والأفضل أن أعيش ضمن البيئة الشعبية الإدلبية الساخرة التي أنهل منها، والآن، بعد أربعين سنة، إذا صح أنني حققت بعض النجاح، فبفضل تلك البيئة.

الأمر الثاني؛ أن إدلب محافظة شبه معزولة عن الوسط الثقافي السوري، وعدد الكتاب المقيمين فيها، آنذاك، كان قليلاً جداً، ولذلك قررت أن أمد جسوري إلى حلب بالدرجة الأولى، لكونها قريبة من إدلب، وإلى دمشق أيضاً، بوصفها مركز الثقل الثقافي والأدبي الأكبر.. وعليه فقد بدأت أقوم برحلات متقاربة إلى حلب (كل أسبوعين مرة تقريباً)، تستمر الرحلة من وقت الظهيرة حتى حلول الليل. وكنت أستهلك معظم وقت الزيارة في "مقهى القصر"، حيث يمضي معظم الأدباء الحلبيين وقت فراغهم. وقد تعرفت، خلال تلك الزيارات على الجميع تقريباً، ونشأت بيننا صداقات جيدة، سواء مجايليَّ، مع حفظ الألقاب: جمال باروت، وفيصل خرتش، وفؤاد محمد فؤاد، ونهاد سيريس، أو الأصغر مني كلقمان ديركي، وأحمد عمر، وحسين بن حمزة، والأكبر سناً كوليد إخلاصي، وفؤاد مرعي، ومحمد أبو معتوق، وعبد الفتاح قلعجي، وفي بعض الأحيان كنت أتعشى، برفقة بعضهم، في العمالي، أو في مطعم الشباب، أو العندليب، فتتوطد الصداقة أكثر بالطبع.. وكنت أسافر إلى دمشق مرة كل شهر، أمضي فيها ثلاثة أو أربعة أيام، وخلال تلك الزيارات المتواترة، تعرفت على معظم الكتاب الدمشقيين والمهاجرين إلى دمشق. كنت أوزع أوقاتي بين مقهى الكمال، ومقهى الهافانا، ومقهى الروضة، ومطعم الريس، ونادي الصحفيين، والرواق، إضافة إلى زياراتي للصحف والإذاعة والتلفزيون.. وثمة أدباء عرفتهم من خلال الأمسيات الأدبية في مختلف المحافظات، وأدباء سعيت للتعرف عليهم، وآخرون قرؤوا بعض كتاباتي فخدعوا بي وسعوا للتعرف علي.. وهكذا.    

ولكنني، ومع الأسف، تأخرت في التعرف على الأديب الراحل فاضل السباعي (1929- 2020)، لأنني لم أصادفه خلال تلك التحركات كلها، مع أن صداقة قوية جمعتني بشقيقه القاص نادر السباعي (1941- 2009)، الذي كان من رواد مقهى القصر بحلب.

ثمة ملاحظة مهمة. وهي أنني لم أقرأ شيئاً من أدب الأستاذ فاضل السباعي، مع أنني كنت نهماً للاطلاع على أعمال الأدباء السوريين الذين سبقونا، ولا أبالغ إذا قلت إنني قرأت معظم أعمالهم. بصراحة؟ لقد كنت، وأمثالي من الكتاب متأثرين، بالدعاية الموجهة إلى فاضل السباعي، وملخصها أنه أديب أرستقراطي / رجعي، بينما نحن (تقدميون)!

كانت تسود في فترة السبعينيات والثمانينيات ثنائية نقدية ضيقة، أعني ثنائية (التقدمي / الرجعي)، مصدرها التأثر بالواقعية الاشتراكية والمذهب النقدي "الجدانوفي" المستورد من الاتحاد السوفييتي، وبالأخص الحقبة الستالينية.. وكان كِتَاب "الأدب والآيديولوجيا في سورية" الذي أصدره بوعلي ياسين ونبيل سليمان يتضمن نقداً لأعمال أدبية لكتاب سوريين نشرت بين عامي 1967 و1973، وقد نظر المؤلفان إلى هاتيك الأعمال من خلال هذا المنطق. وتجدر الإشارة إلى أن هذه العقلية بدأت تتغير، بل إنها لاقت رفضاً قوياً، بدليل ما كتبه بو علي ونبيل في مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب 1985، وهو أن الردود الغاضبة على الطبعة الأولى من الكتاب فاقته بالحجم، وأن الذين أيدوا فحوى الكتاب قليلون، وانطلاقاً من هذه المعركة القوية ألف محمد كامل الخطيب ونبيل سليمان كتاباً آخر بعنوان "معارك ثقافية في سورية 1975- 1977" صدر عن دار ابن رشد سنة 1979. والحقيقة أن هذه النظرة غير العادلة للأدباء السوريين قد تلاشت بعد ظهور البروسترويكا، وتفكك الاتحاد السوفييتي، بعد سنة 1990، وأصبحت تاريخاً وذكرى.   

المهم، تعرفت على الأديب المرحوم فاضل السباعي في مدينة الثورة، "الطبقة" سابقاً، حيث دعت مديرية المركز الثقافي مجموعةً من الكتاب (أنا منهم) لحضور مهرجان القصة القصيرة، في سنة 2004 أو 2005 على وجه التقريب، وكان الأستاذ فاضل حاضراً، بقامته الطويلة، ووجهه البسام دائماً، وطيبته الظاهرة.

كان معنا، في تلك الرحلة الروائي الناقد نبيل سليمان، المعروف بنفسيته الشبابية المرحة، وعلاقاته الاجتماعية والأدبية الواسعة، وخلال استراحة في الفندق، وبينما نحن نشرب الشاي، أخبرنا نبيل أن الأديب خليل جاسم الحميدي، سيأتي بعد قليل من الرقة لينضم إلينا، وأضاف (ممازحاً):

- إذا حدا حابب يغتاب خليل خليه خليه يعجّل ويغتابه قبلما يوصل!

وكالعادة، استجبتُ، أنا محسوبكم للفكرة، وقلت إن خليل جاسم الحميدي كاتب فاشل، ولغته العربية مفشكلة (مع أن أكثر ما يميز قصص خليل الرصانة اللغوية!)، والجلوس معه ليس مستحباً، فهو ممل، ولا يعطي دوراً في الكلام لغيره، ويعيد الكلام نفسه أكثر من مرة.. وعندما وصل خليل، وقفت وسلمت عليه مباوسة، وبعد أن جلس قلت له:

- تأخرت علينا أبو الخل، هلق كنا بسيرتك، بالخير طبعاً.

وفجأة قال لي الأستاذ فاضل: كذبت!

وضحك، مما يعني أنه استجاب لطريقتنا في المزاح، وفي الوقت نفسه سجل موقفاً مما يمكن أن يدخل – بشكل عام - في باب (المراوغة)، فهو، في الحقيقة رجل صادق، ومستقيم، ويمتلك شخصية واضحة، عززتها لدي مجموعة من الانطباعات، منها موقفه المعارض دائماً للاستبداد الأمني، وكان يعبر عن ذلك فيما يكتب، وقد حصل، في أحد المؤتمرات السنوية لاتحاد الكتاب (الذي كان فاضل من مؤسسيه سنة 1969) خاطبه أحد مسؤولي الاتحاد، بشكل علني قائلاً إنك، يا أستاذ فاضل السباعي، دائماً تنتقد المخابرات، وأنا أستغرب منك هذا! والموقف الآخر حصل بعد الثورة، إذ كان فاضل يعبر عن انتقاده الشديد للقمع الذي يمارس بحق الشعب، فكان جواب السلطة الأمنية الوقوف في وجه نشر أعماله، وقد انبرت مذيعة راديو شبيحة وخاطبته بسفاهة، دون مراعاة لتاريخه الأدبي والإنساني وعمره التسعيني.

من مآثر فاضل السباعي التي فوجئت بها، ما كتبه الأديب إياد جميل محفوظ في مخطوط كتابه (الجميلية- حكاية حي حلبي)، وهو الآتي:

(شُيد كنيس سلويرة في الربع الأول من القرن العشرين، واستمر في أداء وظيفته الدينية لأبناء الطائفة الموسوية حتى منتصف الخمسينيّات من القرن نفسه، حيث أقدم عدد من الساخطين والحانقين على اقتحامه، وإضرام النار داخل أسواره إثر العدوان الثلاثي على مصر عام (1956)، على أنّ شباب الحارة المسلمين سارعوا إلى إطفاء الحرائق التي اندلعت في أرجائه، كما أنّهم منعوا الغاضبين من استكمال هجومهم على سكن آل سلويرة، ومن جهته بادر الأديب الكبير الأستاذ فاضل السباعي إلى نقل أفراد أسرة سلويرة إلى منزل أهله الكائن في الطرف الجنوبي من الكنيس، حفاظاً على سلامتهم، وقام بصد المهاجمين المندفعين وثنيهم عن استكمال أفعالهم المتهورة، فقد عاد برفقة عدد من إخوته، ولبثوا أمام باب منزل جيرانهم اليهود مدّعين بأنّهم أصحاب البيت، فجنبوا المكان من العبث والتدمير).