وقفة مع الغوطة واستمرار الثورة 

2018.03.28 | 09:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يكن وارد في مخيلة البشر أنه من الممكن أن يشهد العالم الذي يشهد ثورة عمرانية تقنية علمية غير مسبوقة،  تكرار المآسي والدمار والجرائم التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، فقد كانت برلين أحد أكبر النماذج لمآسي هذه الحرب بما لحقها من خراب وتدمير وحرق وضحايا، إلا أنَّ ما حدثَ ولا يزال يحدث في سورية جعل العالم يقر ويعترف بأنَّ ما حدث في برلين هو جزء بسيط  فقط من الأهوال التي يتعرض لها السوريون اليوم، بصورة فاقت كل التوقعات، وتخطت  كل ذاكرة المآسي التي حدثت في أوروبا خلال الحرب العالمية الأولى والثانية و التي قال الغرب إنها أخطاء لن يسمح بتكرارها. 

لقد تعرض الشعب السوري إلى أشد أنواع القمع والقهر على يد نظام استبدادي مجرم ومغتصب للسلطة وإرادة الشعب، ويعمل على تنفيذ أجندة عنوانها الأبرز "تدمير سورية وشعبها"، وعلى هذا النحو جرى تحت ارتكاب مجازر جماعية بحق أبنائه، وتعرضت البلدات والمدن السورية لتدمير ممنهج ومنظم، واستمر العبث بالتركيبة الديموغرافية التي استهدفت الغالبية السورية، أعني هنا "العرب السنة" كوصف واقع حال مؤسف، دون أن تحرك الدول الغربية ساكناً إزاء ذلك، ولا حتى الدول العربية، فما يحدث في سورية من إجرام وإرهاب بحق الشعب مستمر منذ سبع سنوات، ولم يصدر عن مجلس الأمن والأمم المتحدة إلا إدانات باهتة لاقيمة لها، وقرارات غير مكتملة تشرعن في كثير من الأحيان استمرار القتل والتهجير، وفي أحسن الأحوال قرارات تنتهي بالاصطدام بالفيتو الروسي "المتفق عليه مسبقاً" في الغالب، فمجلس الأمن أيها السادة، مسرحية كبيرة، تؤدي فيها الدول دائمة العضوية أدوار الأبطال الرئيسيين في المشهد، وتؤدي باقي الدول أدوار (الكومبارس). وكاتب النص ومخرجه هو واحد بالنهاية،  وتسير الأمور بهذا القدر أو ذاك وفق خطوط ثابتة تتوافق مع مصالح المخرج، وأي خروج عن النص يبقى عملاً تشويقياً لا يغير كثيراً من الأفكار العامة والهدف الرئيسي في العرض. 

الغوطة التي بقيت محاصرة كل هذه السنين العجاف تتعرض منذ قرابة الشهر لتدمير هائل

الغوطة التي بقيت محاصرة كل هذه السنين العجاف، تتعرض منذ قرابة الشهر لتدمير هائل، وفق الأسلوب الذي اعتادته روسيا " الأرض المحروقة"، محروقة بكل ما يخطر وما لا يخطر على بال بشر من الأسلحة، من الفوسفور الأبيض ، إلى النابالم وغاز السارين والكلور، ناهيك عن جميع الأسلحة الثقيلة من طائرات وراجمات ودبابات وصواريخ. 

لم تساهم فظاعة الجرائم التي نقلتها العدسات من مسرح الجريمة، في اتخاذ أي قرارات حاسمة وخطوات فعلية، لا من مجلس الأمن ولا من الدول التي زعمت يوماً أنها " صديقة الشعب السوري"، بل بقي الأمر كما هو، واستمرأ النظام والروس والإيرانيون والميليشيات الطائفية المرافقة لهم، تمزيق الغوطة وتقسيمها طولاً وعرضاً، ونجحت في تهجير قسم ممن تبقى من أبنائها، في حين لا يزال قسم آخر يقاومون في ظل فقدان كل الإمدادات والمؤن اللازمة لبقائهم على قيد الحياة، فقد اختار هؤلاء القتال حتى آخر نفس بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى. 

من جهته، يحاول النظام والروس تسويقَ أنّ حسم الثورة يتعلق بسيطرة عسكرية في الغوطة، كما توهّم قبل ذلك في معركة حلب وقبلها في حمص. وهذا بطبيعة الحالة لن يتحقق منه شيء، فعلى الرغم من أن الغوطة هي معقل من معاقل الأحرار في سورية، ساهمت في بقاء ساحة النضال مشتعلة، بل كانت وستبقى مضرب مثل في الصبر والإباء والشجاعة والثبات، فإن الغوطة في النهاية هي جزء من كل، هي جزء من ثورة لا يمكن تجسيمها ولا تقزيمها ولا تمثيلها ولا حصرها ببلدة أو معركة، ثورة باتت في الضمائر الحية للشعب السوري، ثورة صدحت الحناجر بأهدافها، وباتت جزءا من وعي و(اللاوعي) أيضاً لشعبنا، باتت جزءا من هويته وتفكيره وذاكرته الجمعية، وبات كل صورة لرغيف مدمى، أو لعبة محترقة، أوشارع مدمر، أو طفل تحت الأنقاض، شاهداً على أن النظام استنفد كل وسائله واستخدم كل أسلحته وأوراقه وذخائره، وقد نجح بالفعل بتهجير ملايين السوريين وتدمير معظم المدن والبلدات السورية، لكن دعونا أيضاً نعترف أنه لم ينجح في إخماد الثورة أو لجمها، ولن ينجح في ذلك أمام شعب لم يعد له خيار إلا الاستمرار في هدفه لإسقاط النظام وإقامة دولة لجميع السوريين. 

الثورة باقية والأطفال الذين ترعرعوا في ظل هذه التضحيات الجسيمة، وحطمت حاجز الخوف من الاستبداد، سيكون لديهم الإصرار الأكبر للاستمرار في العمل على تحقيق أهداف الثورة بالحرية والعدالة، والقضاء على كل أشكال الظلم والاستبداد الذي تقوم به العصابة المغتصبة للسلطة في دمشق. 

الثورة السورية لا نبالغ إذا قلنا بأن حدودها تخطت الحدود السياسية السورية، ليس لأن ملايين السوريين باتوا مهاجرين ولاجئين في الشتات، لكن أيضاً بات الوضع الدامي في سورية يطرح في كل أنحاء العالم، وعلى كل المستويات الفكرية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية، تساؤلات مهمة، ربما أبرزها هو: هل نحن بالفعل قادرون على إطلاق صفة "التحضّر" على دول العالم؟ وخاصة الدول الغربية التي تتشدق بحقوق الإنسان والحيوان والبيئة وحظر الأسلحة الكيميائية وغيرها من المحظورات التي لا وجود لها في قاموس النظام السوري والدول المتحالفة والمشتركة معه في الإجرام.