وفي البدء كان الاعتراف

2019.12.02 | 21:39 دمشق

resized_c2f6a-f1d8d62d1428_ar_picture_20191014_19618487_19618489.jpg
+A
حجم الخط
-A

أصدر "الجيش الوطني السوري" يوم السبت الماضي بياناً يردُ من خلاله على تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش حول "مزاعم" ارتكابه انتهاكات لحقوق الانسان. وقبل التطرق إلى مضمون البيان، يمكن التوقف عند طريقة إخراج وتقديم البيان الصادر عن "إدارة التوجيه المعنوي" في هذا الفصيل. وعلى الرغم من كون النص لا يتجاوز الثلاث صفحات، إلا أنه حظي بغلاف ملون يحمل صورة شديدة الإنسانية لجنود غير ملتحين وهم يحملون طفلة غير محجبة وفي فوهة بندقياتهم الورود. وعلى الرغم من إمكانية أن تكون هذه الصورة المختارة للغلاف شديدة الواقعية إلا أننا من النادر أن وقعنا على صور مشابهة لعناصر هذا الفصيل.

وقبل التعرّض إلى الهجوم التشكيكي، يجدر التأكيد بأن هذا الأمر الشكلي غير مهم البتة ولا يمكن أن يُبنى عليه إلا الاستنتاجات المغرضة. أما اسم الإدارة التي أصدرت البيان، فهو يُحيلنا إلى العناوين "البعثية" في تسميات الجيش السوري التقليدي والذي ساهم جزء منه في قمع وتهجير وترويع مئات آلاف السوريين. ويعتبر من هم موالون لفصيل الجيش الوطني الجديد بأنهم قد خرجوا يوماً ثائرين على نظام أنهكهم بقمعه وبفساده، ساعين إلى دولة الحق والقانون وإلى ديمقراطية تكسرّت نصال مجمل أعدائها، ومن جميع الأطراف، على جسدها السوري المنهك حتى قبل الولادة.

يحمل تقرير المنظمة الحقوقية الدولية، والتي يعتبرها أهل المهنة موضوعية ودقيقة في عملها، عنواناً واضحاً في حمولته يقول "سوريا، انتهاكات بحق المدنيين في المناطق الآمنة". يتحدث عن إعدامات جرت خارج القانون ومنع عودة بعض السكان من قبل مسلحين وانتهاكات لحقوق الانسان ارتكبها ويرتكبها فصيل "الجيش الوطني". وعوضاً عن التوقف بشفافية بناءة أمام هذا التقرير الهادئ والتفصيلي، شفافية لطالما احتاجتها فصائل المعارضة المسلحة، لم يجد القائمون على "إدارة التوجيه المعنوي" في هذا الفصيل إلا أن يدحضوا الاتهامات ويدينوا عمل المنظمة الحقوقية معتبرين بأنه يبتعد عن الحيادية والموضوعية وصولاً لاتهام مسؤولة الشرق الأوسط في المنظمة بالضغينة الشخصية، كما التنديد، عن جهل بالواقع، بتغاضي المنظمة عن فضح وإدانة الانتهاكات التي ترتكبها فصائل وحدات الحماية الشعبية أو قوات قسد. فتقارير المنظمة كثيرة بخصوصهم ويكفي حسن استعمال النت للحصول عليها.

وعوضاً عن التوقف بشفافية بناءة أمام هذا التقرير الهادئ والتفصيلي، شفافية لطالما احتاجتها فصائل المعارضة المسلحة، لم يجد القائمون على "إدارة التوجيه المعنوي" في هذا الفصيل إلا أن يدحضوا الاتهامات ويدينوا عمل المنظمة الحقوقية

بعيداً عن اللغة "البعثية" للبيان والتي تُميّز الأنظمة الاستبدادية في ردودها على كافة الإدانات أو حتى الإشارات إلى انتهاكات تقع في بلدانها لحقوق أساسية نصّت عليها المواثيق الدولية، فإن بيان الفصيل المعارض السوري قد صيغ بلغة حقوقية تشير إلى معرفة كتبته بأهم بنود القوانين الدولية الناظمة للصراعات المسلحة كما يحمل إشارات إيجابية إلى انفتاح الفصيل على التعاون مع المنظمة، بعد التشكيك في حياديتها وموضوعيتها، في إعادة التحقيق بما ورد فيه.

ويبدو واضحا من البيان تناقض مضامينه المنفتحة على الآخر الحقوقي الدولي غير صاحب الضغينة ضد الفصيل مبدئياً، والذي ما فتئ يفضح ويندد ويوثّق جرائم وانتهاكات كل الأطراف المنخرطة في المقتلة السورية وعلى رأسها النظام السوري منذ بدء القمع العنيف والدموي سنة 2011، مع نفي وقوع الانتهاكات التي أشار إليها التقرير الحقوقي بالتشديد على أنه يُحابي مكوناً دون الآخر. وفي هذا إشارة واضحة إلى أن المنظمة تميل إلى الكرد وتهمل حقوق العرب.

وعلى الرغم من إشارة بيان التنديد هذا إلى عدم إمكانية النفي القاطع لوقوع انتهاكات سمّاها فردية، إلا أنه رفض تقرير المنظمة جملة وتفصيلاً واعتبره متحاملاً ومجانباً للمهنية وللموضوعية، مطالباً المنظمة بسحبه وتقديم الاعتذار. وقد غاب عن الحقوقي الذي صاغ البيان الفهم الكامل لآليات عمل المنظمات الحقوقية ذات السمعة، والتي لا تعمل لصالح أي طرف عدا الحق والقانون، والتي لا تُميّز إلا بناءً على مستوى الانتهاكات من أية جهة أتت. وبمطالبته المنظمة بالاعتذار وسحب التقرير، فهو يترجم أيضاً جهله بآليات عمل هذه المنظمات التي تستند إلى مسار معقد ومحقق من تدقيق المعلومات ومقاطعة المصادر والتحقق من الوقائع من أكثر من جهة.

وبمطالبته المنظمة بالاعتذار وسحب التقرير، فهو يترجم أيضاً جهله بآليات عمل هذه المنظمات التي تستند إلى مسار معقد ومحقق من تدقيق المعلومات ومقاطعة المصادر

من الطبيعي أن تحاول أية جهة أن تنأى بنفسها عن أية تهمة تتعلق بانتهاك حقوق الانسان، والتي يمكن لها أن تعتبر أيضاً بأن بعض الانتهاكات ترقى إلى مصافي جرائم الحرب، خصوصاً إن كانت هذه الجهة تمثّل أو هي تدّعي تمثيل الضحية. بالمقابل، فمشروعية الضحية تتوقف عند تحوّله فردياً أو جماعياً، متعمداً أو غير متعمّد، إلى جلاد مهما تم تخفيف المقياس. من خرج يوماً لحريته ولدفع المستبد إلى احترام حقوقه، لا يمكن له البتة أن يقبل بأن يقوم أفراد منه أو مجموعات، بتقمص شخصية المستبد وأفعاله ولغته.

حسناً فعل بيان فصيل الجيش الوطني بالتأكيد على احترام أفراده النظري على الأقل للمواثيق الدولية مع تعدادها، ولكنه كان من الأحسن إن هو اعترف بالانتهاكات التي سجلتها منظمات مهنية، مع محاولة دفاع / تبرير جزئية، دون اللجوء إلى لغة خشبية بعثية ما فتئنا نسمعها من كل الأنظمة المستبدة على امتداد الوطن العربي والتي تُعمل المقارنات من نوع لماذا أنا وليس هو.

وفي البدء كان الاعتراف.