وفعلها البرتقالي!

2018.12.24 | 00:12 دمشق

+A
حجم الخط
-A

منسجماً مع وعوده الانتخابية، كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد تحدث، في شهر آذار الماضي، عن الانسحاب العسكري من سوريا. وإذ عاندته المؤسسة العسكرية والدبلوماسية والأمنية، حينذاك، أعطاهم مهلة تسعة أشهر قبل البدء بالانسحاب. الآن انتهت الأشهر التسعة، فظل ترامب وفياً لوعوده، فأصدر أوامره بالانسحاب الكامل والسريع. ومع ذلك فاجأ قرار ترامب الجميع. فهو، بهذا المعنى، قرار مفاجئ وغير مفاجئ في الوقت نفسه.

 ووجه المفاجأة فيه هو أنه لم يمض وقت طويل على إعلان وزير الخارجية مايك بومبيو، ومبعوثه الخاص جيمس جيفري، عن تفاصيل استراتيجية أميركية جديدة لسوريا قائمة على 3 نقاط: هزيمة تنظيم داعش بما يقطع الطريق على عودته مرة أخرى، وإخراج إيران من سوريا، ووضع ترتيبات انتقال سياسي في سوريا. إعلان ترامب، من هذا المنظور، يعني طي صفحة هذا البرنامج الطموح، بما أن الأهداف الثلاثة لم تتحقق، وإن كانت الحرب على داعش قد حققت بعض الإنجازات الميدانية. كذلك هي الحال مع تصريحات كثيرة من أركان البنتاغون فحواها توقع بقاء مديد للقوات الأميركية في سوريا.

تحدثت التسريبات عن أن ترامب قال لنظيره التركي أردوغان، أثناء المكالمة الهاتفية التي جرت بينهما،

هدية ترامب هي لبوتين أكثر مما لأردوغان، سيكون على تركيا، بعد إتمام الانسحاب الأميركي، الحصول على موافقة موسكو بدلاً من واشنطن، وهو أمر ليس مضموناً في الجيب

الأسبوع الماضي: "سأقول لك شيئاً. أتريد سوريا؟ خذها إن شئت. نحن عائدون إلى الوطن"! مع ذلك لا يصح اعتبار قرار ترامب بالانسحاب، هدية يقدمها لتركيا التي طالما هددت بملاحقة من تصفهم بالإرهابيين من وحدات حماية الشعب الكردية في منطقة شرق الفرات الواقعة تحت الحماية الأميركية، وطالما ضغطت على واشنطن لفك تحالفها مع تلك الوحدات. ذلك لأن دخولاً عسكرياً تركياً إلى تلك المنطقة، بتفاهم مع واشنطن شيء، وبعد خروجها منها شيء آخر. وبالنظر إلى أن هدية ترامب هي لبوتين أكثر مما لأردوغان، سيكون على تركيا، بعد إتمام الانسحاب الأميركي، الحصول على موافقة موسكو بدلاً من واشنطن، وهو أمر ليس مضموناً في الجيب.

وهكذا كان أول رد فعل تركي على القرار الأميركي هو الحديث عن تعليق موعد العملية العسكرية شرق الفرات إلى أجل غير مسمى. وهو ما قد يعني أن التهديدات التركية كانت، أصلاً، نوعاً من التهويش لاستدراج تنازلات أميركية في مناطق أخرى، منبج مثلاً، حيث لم ينفذ الأميركيون تعهداتهم لأنقرة بشأنها، وواصلوا المماطلة والتسويف. الآن وقد زالت العقبة الأميركية، وجد الأتراك أنفسهم، فجأة، في مواجهة الفراغ. وهو ما سوف يستدعي إعادة تقييم الموقف قبل التورط في أي توغل بري جديد.

روسيا بوتين هي الرابح المطلق من قرار ترامب. فقد باتت مستفردة تماماً بكل جوانب المشكلة السورية. هي التي ستوزع المغانم السياسية من الانسحاب الأميركي بين تركيا وإيران وإسرائيل. وكذا فيما يتعلق بالمسار السياسي. ففي ظل غياب أي سياسة أميركية لسوريا (بعد طي صفحة الاستراتيجية الأميركية المذكورة أعلاه) سيواصل بوتين المضي في تسويته السياسية، مع شريكيه الضعيفين في ثلاثي سوتشي، إيران وتركيا، وربما مع الاستغناء التام عن أي مساهمة للأمم المتحدة، حتى بذلك الشكل الهزيل الذي مثله المفوض الأممي المستقيل ستيفان ديمستورا.

من الأسئلة الملحة التي يطرحها قرار ترامب: ما هو مصير التحالف الدولي لمحاربة داعش، بعدما اعتبر ترامب أنه تم القضاء على المنظمة الإرهابية، مسوغاً بذلك قراره؟ أما "ما تبقى" من تلك المنظمة فقد رمى ترامب بمسؤولية القضاء عليه على "دول المنطقة، بما فيها تركيا" على ما جاء في أحدث تغريداته. فهل نتوقع قراراً ترامبياً جديداً بخروج الولايات المتحدة من التحالف الدولي؟ أم أن من شأن ضغوط فرنسية - بريطانية أن تقنعه بمواصلة العمل ضمن التحالف، أقلّه على مستوى سلاح الطيران، حتى تحقيق الهدف الأصلي من إنشاء التحالف، أي القضاء التام على داعش (وإن كنا لا نعرف ما قد يعنيه ذلك، وكيف يمكن التأكد من "تعقيم" العالم ضد هذا السرطان).

وإذا كان أكبر الرابحين هو روسيا بوتين، فأكبر الخاسرين من قرار ترامب هو "وحدات حماية الشعب" بما لا يقبل الجدل. يتوقع كثيرون أن تتجه تلك الوحدات، وجناحها السياسي "حزب الاتحاد الديموقراطي" إلى إعادة التحالف مع نظام دمشق الكيماوي للاحتماء من أي توغل تركي محتمل. ولكن يفوت أصحاب هذا التوقع أنه لم يعد هناك قرار مستقل في دمشق، بعدما أصبح رسن النظام في يد موسكو إلى حد بعيد. وهنا إذا أرادت روسيا إعادة النظام إلى مناطق شرق الفرات، استكمالاً لديكورات التسوية السياسية، في هذه الحالة فقط يمكن أن تنسق القوات الكردية لعودة النظام الرمزية إلى تلك المنطقة.

إيران بدورها ستتنفس الصعداء، بعد أشهر عصيبة وقاتمة من توقع

قرار ترامب سيشكل بداية مرحلة جديدة في الصراع في سوريا وعليها، أبرز سماتها الموقع القيادي المتفرد لموسكو

الأسوأ من جهة تضييق الخناق الأميركي عليها. لكن قواتها ستبقى تحت رحمة الطائرات والصواريخ الإسرائيلية التي ستواصل ضرب المواقع الإيرانية في سوريا بضوء أخضر روسي.

الخلاصة أن قرار ترامب سيشكل بداية مرحلة جديدة في الصراع في سوريا وعليها، أبرز سماتها الموقع القيادي المتفرد لموسكو. أما فرنسا التي أعلنت أنها باقية في سوريا، فمن المحتمل أن تسحب العدد الرمزي لقواتها من سوريا قريباً، بالنظر إلى أنها لا تملك القدرة على مواجهة أي مخاطر يمكن أن تتعرض لها (من النظام أو تركيا أو داعش).

وعلى ذكر داعش، لن نفاجأ إذا عادت المنظمة إلى استعادة زمام المبادرة وتفعيل خلاياها النائمة في مناطق سورية عديدة، لتعود لاعباً مهماً في الصراعات العسكرية.

من المستبعد أن يتراجع ترامب عن قراره، بعدما استقال وزير الدفاع جيمس ماتيس، وكذا ممثل الولايات المتحدة في التحالف الدولي ماك غورك، على خلفية قرار الانسحاب. إلا إذا أراد صاحب الشعر البرتقالي أن يفاجئ العالم بتغريدة جديدة تحبس الأنفاس.