وطن بديل مع وقف التنفيذ

2020.02.18 | 23:08 دمشق

151365945498870600.jpg
+A
حجم الخط
-A

إذا كنت ممن يستعصي عليهم النوم في ساعات الليل المتأخرة، وتتذرع بينك وبين نفسك بأن النور الخافت القادم من الشارع أو الضجيج البعيد من الأصوات القادمة في المدينة الكبيرة يقضان مضجعك، فلا تعتقد نفسك وحيداً وأهلاً بك في عالم الاكتئاب.

إذا كنت ممن يدفنون رأسهم تحت الوسادة كي يغرق نفسه في النوم أكثر، ويرفض كل محاولات الإيقاظ ويختبئ منها حتى يكاد يدفن نفسه في الفراش، معتقداً أن العالم سيصلح أعطاله في غيابك، أو أنك ستكسب وقتاً أطول ريثما يستعيد لونه البهي وربيعه الميت، أو كنت على الأقل ممن يقول لنفسه إن هذا العالم القذر سيصبح أفضل في غيابك فلا تحرق نفسك عبثاً وتعال إلينا في عالم الاكتئاب.

إذا كنت ممن يتلعثم وهو يحاول التعبير عن نفسه بلغة غريبة عنه ولم يستطع إتقان مخارج حروفها وحفظ مفرداتها، أو كنت ممن بدأ يشعر بالفجوة بينه وبين أبنائه الذين يكبرون في المنفى القسري، من دون حنين إلى البلاد التي كان يعتقد أنها ستكون موطنه الأول ومنفاه الأخير، لا عليك.. الحل الوحيد لكل ذلك هو الصمت وترك الفرصة للاكتئاب ليأكل ما تبقى من جسدك الذي لم تتلقفه رصاصات البلاد الطائشة أو المتعمدة.

خيمتي هنا ليست في الصحراء ولا هي بين سياج حدودين طرداني من رحمتهما، خيمتي في بلاد دافئة وغنّاء منحتني منزلاً وملاذاً آمناً، لكنها صنفتني مواطناً من الدرجة الثانية، يتهامس عليه الموظفون في الدوائر الحكومية ويشير إليه الباعة والمارة في الشارع بسبب ملامحه الهجينة والملونة.

أحتمي هنا من برد الشتاء وحر الصيف، لكن الوحدة والعزلة التي

أعتقد أنني أضعت ملامحي مع ملامح الشهداء الذين رأيت جثثهم في طريق هروبي من ذلك الجحيم

تحيط بأطرافي تمنعني من الخروج من حدود جسدي الصغير والانتقال إلى أماكن أكثر رحابة أو مساحات أوفر أوكسجيناً، أحاول النظر في المرآة في كل صباح لأتبين ملامحي فأكتشف ملامح شخص لا أعرفه.

أعتقد أنني أضعت ملامحي مع ملامح الشهداء الذين رأيت جثثهم في طريق هروبي من ذلك الجحيم، ومع صراخ الأطفال الذين أفلتوا من أيدي آبائهم وأمهاتهم في الظلام الذي أطبق على أرواحنا، وربما تركتني تلك الملامح وأنا أودع جدران منازل مدينتي للمرة الأخيرة قبل النزوح الكبير.

ربما نجونا مثل كثيرين من قبور المعتقلات وآثرنا أن نرمي بأجسادنا في البحار فتصبح طعاماً لكائناته، على أن تقتاتها سياط السجان أو أن تدفن في مقبرة أشلاء جماعية، وجدنا لأنفسنا مدفناً رحباً هنا، غير أنه يفتقد إلى مؤنس يحمل معنا اللعنة ذاتها فنحتضر من فرط الألم الواحد معاً.

لا نحمل عبء فواتير الماء والكهرباء والأوكسجين في أول كل شهر، ولكننا نحمل أضعاف أضعاف ذلك العبء ويثقل قلبنا ذلك الشعور بالوحدة الأبدية، التي لا تستطيع اللغة الجديدة تبديدها.

جزء مني مثلك أيضاً بقي عالقاً في بلاد لفظت نصف أبنائها وقتلت النصف الآخر أو انتقت أعلاهم قدراً وشأناً ليصبح مواطناً ذو درجة علية، ما زلنا نحاول إعادة ترميم ذلك الجزء في البلاد التي أشفقت على تشردنا فتبنتنا وقررت الاعتناء بنا، لكننا لم نكن أبناءً لها على الإطلاق وربما لن نكون، ولسنا نمتلك حتى رفاهية الحزن على ذلك، بل علينا أن نحمد الله كل يوم على قبول المنفى بوجودنا فيه.

نحن الآن في خيمة جدرانها من إسمنت وطين، خارج أسوار السجن الكبير الذي استطعنا الهروب منه، حين كان ينوي ابتلاعنا مثل دوامة متوحشة، ولكننا هنا اخترنا أن نكون السجين والسجان.

نحن هنا تحت سماوات رحبة إذن، داكنة أحياناً ومشمسة في كثير من الأحيان، يحسدنا كثير

الفرق بيننا وبين من تركناهم خلفنا أننا اخترنا قاتلنا وتعرفنا إلى ملامحه الباردة أثناء سنوات المنفى

ممن لم تكن لهم رفاهية تلك الوحشة الواسعة، لا نصارع من أجل قوت يومنا ولا نخشى من الموت صقيعاً، وفي المقابل منحنا أحلامنا وقضايانا وحياتنا الرتيبة المستقرة لتكون وقوداً للمعركة التي لا تنتهي.

الفرق بيننا وبين من تركناهم خلفنا أننا اخترنا قاتلنا وتعرفنا إلى ملامحه الباردة أثناء سنوات المنفى، إنه الوحدة التي ستقتلنا حتماً في بلاد لن تصلي فوق جثاميننا مثلما نريد وستختار لنا مدفناً خاصاً بالغرباء الذين لا عوائل لهم، وربما لن يأتي إلى زيارتنا أحد في صباحات الأعياد، والأغلب أنه لن يلحظ موتنا أحد لأن غيابنا لا يشكل فرقاً يذكر، لكننا يجب أن نكون ممتنين لأننا من المحظوظين الذين لم يلقوا حتفهم برصاص أعمى ولم يضع دمه بين القبائل المقتتلة على تراب البلاد.

ليس ذنب العالم أن بلادك لفظتك ولم تحفظ لك حق المواطنة مثلما تفعل بقية الأوطان مع أبنائها، لقد كنت هنالك رقماً غير مميز في دائرة الإحصاء، والآن كنت محظوظاً لأنك أصبحت رقماً في دائرة المهجرين، الفرق الوحيد أنك ارتفعت هنا قليلاً على سلم الإنسانية واخترت أن تفسح لنفسك مكاناً بين مواطنين ينظرون إليك على اعتبارك إنسان من الدرجة الثانية وربما لن تصبح مواطناً في المدى المنظور لكنك نجوت بجسدك الهش من أن تتناثر أشلاؤه في التراب من دون أن تُعرف لك هوية.