وحدة الأرض السورية.. ماذا تعني؟

2019.09.19 | 17:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

حين يتحدّث علماء اللغة عن علم الدلالة، يؤكّدون على ملازمة الدال والمدلول، باعتبارها القرينة اللازمة لتتبع العلاقة بين الألفاظ والمعاني، وحين يبتعد المعنى الاصطلاحي عن المعنى المعجمي للفظ، فإنهم يبحثون عن أنواع أخرى من الدلالات، كالدلالة الوضعية، أو التأويلية وما سوى ذلك، ولكن يبدو أن لغة السياسة، وخاصة عندما تكون الحروب قائمة، تنزع نحو إيجاد أنواع أخرى للدلالة، غير التي تحدث عنها علماء اللغة، من هذه الأنواع ما يمكن تسميته بالعلاقة (الضدّية)، والتي تعني انعدام العلاقة بين الدال والمدلول، حيث تصبح المعاني التي تتداعى في الذهن على نقيض تام مع أصولها اللفظية والمعجمية، هل هذا نوع من الهرطقة اللغوية؟ ربما يبدو الأمر كذلك، ولكن هذه الهرطقة قد تصلح – كمفهوم – لاستيعاب كثير من العبارات والشعارات التي باتت معانيها المألوفة في الأذهان منقطعة الصلة بمدلولاتها الحسية الملازمة لها في الواقع المعاش.

ربّما بات يظن البعض، أن ثورة السوريين قد انطلقت نتيجة نزاع مناطقي بين سكانها، فاستنجد سكان كل منطقة أو بلدة بحليف إقليمي، أو طرف دولي

في القمة التي انعقدت في أنقرة يوم 16من أيلول الجاري، بين رؤساء الدول الثلاث الراعية لمسار أستانا ( روسيا – تركيا – إيران )، وخلال المؤتمر الصحفي الذي عقده الرؤساء الثلاثة في اليوم ذاته، كانت اللازمة التي لا تكاد تفارق حديث كل منهم، هي عبارة ( وحدة الأراضي السورية – سيادة الدولة السورية)، إلى درجة يُخيّل فيها إلى المرء، أن سوريا قبل عام 2011 كانت مُقسمة إلى مقاطعات أو أقاليم أو حارات، مما استدعى جميع هذه الجيوش المتحاربة على الأرض السورية، لكي تعيد اللُحمة إلى أرض السوريين التي تقطّعت أوصالها، وتعيد إليهم سيادتهم التي انتُهكت، بل ربّما بات يظن البعض، أن ثورة السوريين قد انطلقت نتيجة نزاع مناطقي بين سكانها، فاستنجد سكان كل منطقة أو بلدة بحليف إقليمي، أو طرف دولي، ليكون نصيراً له في وجه خصمه المناطقي الآخر، في حين أن الحقائق تؤكد أن أي مواطن سوري، قبل عام 2011 ، كان بإمكانه المرور على معظم المحافظات السورية بيوم واحد، وبسهولة تامة، بينما بات أي مواطن سوري، في ظل وجود الدول الثلاث الراعية لأستانا على الأرض السورية، وبموازاة إصرارهم وحرصهم الشديد على ( وحدة الأراضي السورية)، يتعذر عليه مغادرة الحيّز الجغرافي الذي هو فيه، والذي لا يتجاوز في معظم الأحيان، بضعة كيلومترات مربعة، فالمواطن الذي يعيش في دمشق أو حلب، ليس بمقدوره الذهاب إلى الرقة مثلاً، إلّا بعد ( جرْدة) حسابات شاقة يجريها بينه وبين نفسه أولاً، وعليه أن يحسب العواقب بدقة كبيرة، فضلاً عن المشقة التي تسببها خرائط  نفوذ القوى الموجودة على الأرض، وكذلك الذي يقيم في إحدى مدن الجنوب السوري، فلن يكون بمقدوره الذهاب إلى الشمال، كإدلب مثلاً، دون أن تلتصق به صفة( الإرهابي)، بل لنا أن نتخيّل عِظَمَ المشكلة حين يتعذّر على أحد سكان مدينة جرابلس مثلاً، أن يحضر تشييع جنازة أحد أفراد عائلته المقيمين في قرية مجاورة كـ ( عون الدادات ) مثلا، علماً أن المسافة بينهما لا تتجاوز ( 18 كم ) وذلك بسبب وقوع كلتا البلدتين تحت سلطة نفوذ مختلفة عن الأخرى.

وحدة الأراضي السورية، كلفظ دال، بات ينطوي على دلالات سيئة، حين تحول إلى ( كلام حق يُراد به باطل) كما يقال، وقد اكتسى هذا ( الدال) على دلالات أكثر سوءًا حين بات استخدامه أو التركيز عليه وترسيخه في الأسماع والأذهان، يهدف إلى تجاهل القضية الجوهرية للسوريين، بل إلى تغييبها، وإحلال أخرى مكانها، هي في معظم الأحيان، لم تكن من بواعث ثورة السوريين، بل من جملة المقولات التي تصدّرت معجم ( الخطاب الممانع)، وقد تجرّع السوريون مدلولاتها ( الضدّية) المدمِّرة طيلة عقود من الزمن.

ربما كان الإيراني ( حسن روحاني) هو الأكثر وضوحاً وانسجاماً مع رغبته أثناء تلفّظه بعبارة ( وحدة الأراضي السورية)، إذ أشار بوضوح إلى أن سيادة سورية تعني سيطرة نظام ( بشار الأسد) على كامل الأرض السورية، وإعطاء المجال لها لتأخذ دورها في بناء مستقبل البلاد، إذاً  وحدة البلاد، وسيادتها، عبارتان يختزلهما روحاني بوجوب امتداد سلطة بشار الأسد على كامل الأرض السورية، ومن دون هذه السلطة تختفي جميع علائم الوحدة والسيادة، ولم يُخف رئيس إيران حنقه الشديد من وجود القوات ( الأجنبية) في سوريا باعتبارها أصل البلاء، وبهذا يحقق روحاني أعلى درجات الانسجام مع ذاته، لأن جيوش إيران وميليشياتها اللبنانية والعراقية والأفغانية ووووو، ليست أجنبية، بل هم أكثر أحقية في وجودهم في سوريا، التي هي أهم من محافظة ( أصفهان ) الإيرانية، وفقاً لقادة إيران، ما بقي على روحاني أن يقوله – وهو يتقاطع مع بوتين في هذا الجانب – إن أنصع معاني( الوحدة والسيادة) هي تلك التي تحملها البراميل المتفجرة، والمخزون الكيمياوي القاتل الذي يمطركم به بشار الأسد وحلفاؤه، أما السوريون الرافضون لسلطة الأسد، فهؤلاء لا يمكن أن يكونوا جزءًا من ( المجتمع المتجانس) بحسب تعبير رأس النظام.

وحدة الأراضي السورية، كلفظ دال، بات ينطوي على دلالات سيئة، حين تحول إلى ( كلام حق يُراد به باطل) كما يقال

لعله من الثابت، أن شعار ( وحدة وسيادة سوريا) هو العبارة التي لا يختلف أحدهما مع الآخر( أطراف القمة الثلاث) في جعْلها لازمة لحديث أيٍّ منهم، لإيمانهم العميق بأن كلّاً منهم يريد أمراً آخر، ولئن أرادت إيران أن تبقى سوريا امتداداً حيوياً لمشروعها القومي ذي الذخيرة الإيديولوجية الطائفية، وتسعى – من أجل ذلك -  للحفاظ على علاقتها ( العضوية) بنظام الأسد، فإن بوتين يريد سوريا جميعها – بقضها وقضيضها – أمّا دفاعه المستميت عن نظام الأسد، فإنما يجسّد رغبته المطلقة في السيطرة التامة على جميع رموز السلطة وأدواتها الراهنة، ليأخذ ويفعل ما يريد بكل طواعية وإذعان. أمّا تركيا، فلا يجهل أحد أن ما يعنيها من ( وحدة الأرض السورية) هو استبعاد أي كيان كردي على تخومها الجنوبية، يهدد بإنشائه حزب الاتحاد الديمقراطي، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، و الذي بات يسيطر على مساحات كبيرة من شرق سوريا، بفضل الدعم الهائل الذي تقدمه له الولايات المتحدة الأميركية.

ما هو غائب في هذا الشعار – اللازمة – هو فحواه الحقيقي، ولعل السبب الجوهري لهذا الغياب، قبل الحديث عن مصالح الآخرين وسعيهم لتحقيق تلك المصالح، هو حالة ( اليُتْم الوطني) التي كانت الترجمة الفعلية لانزياح قادة السوريين من الدور الوطني إلى الدور الوظيفي، ولو وُجدَ في تلك القمة من يمثل تطلعات السوريين، لصاح ملء جراحه: أيها السادة، ما هو غائب في سوريا ليس وحدة الأراضي السورية، بل وحدة كرامة السوريين، وما الجدوى من وحدة الأرض دون كرامة وحرية أبنائها؟ الكرامة التي اغتصبها نظام الأسد منذ عقود، وجودكم جميعاً على الأرض السورية، واحتراب مصالحكم فيها، هو أحد تداعيات استمرار الأسد في إجرامه، ربما تعدّدت مشكلاتنا وتشعّبت آلامنا، ولكن جذرها الحقيقي هو منبع الإجرام الأسدي، وأي مسعى لترسيخه، هو بلا أدنى ريب، مساهمة في قتلنا.