وجه العالم الحقيقي

2021.03.24 | 05:47 دمشق

1019807011.png
+A
حجم الخط
-A

يوحي تسارع وتيرة ازدياد الوعي في العالم وانعكاس ذلك على الحريات والمفاهيم الخاصة بالإنسانية، بدخولنا عصرا جديدا ومختلفا يبدو أكثر تطوراً من تاريخ البشرية، تؤكد ذلك ربما المشاهد الجمالية المنتشرة على صفحات التواصل الاجتماعي من صور أو لوحات أو ارتفاع حالة الرفاهية ومتطلبات الحياة والشروط الطبيعية لدى الإنسان.

رافق ذلك التغيير الحاصل حدوث الثورة العلمية والرقمية، وارتفاع سقف الطموحات الفردية، واختلاف المفاهيم وتنامي المشاريع الفردية والمجتمعية.

تبدو اللوحة الخارجية ملونة للغاية وتعطي انطباعاً بوجود عالم مختلف عن الشرور التي روتها لنا الجدات في القصص، عالم يمكن لـ "ليلى" فيه أن تنجو من الذئب ولـ "سندريلا" ألا تقع فريسة زوجة الأب الظالمة، أو هكذا يحلو لنا أن نعتقد.

لقد ارتفع سقف الأحلام البشرية وبدأ الإنسان يعتقد بإمكانية الوصول إلى تحقيق الطموحات ضمن شروط معينة، الأمر الذي يزيد فرص حصول قفزة نوعية في حياة الجنس البشري، غير أن الحال ربما قد يختلف عن ذلك إذ إن عدداً لا يستهان به من شرائح مختلفة من الجنس البشري ما زالت ترزح تحت ضغوط هائلة وتعيش في شروط أقل ما يمكن وصفها فيه بأنها شروط غير إنسانية، تدلنا على ذلك الحوادث المحيطة بنا واليوميات التي يعيشونها، وذلك بعكس الصورة الجميلة التي يحلو للبعض تصديرها.

العالم قد بدأ يتخذ شكله الجديد الذي أصبحت فيه القيم محل اختلاف وأصبح فيه الضعفاء وقوداً لمعارك الأقوياء

يعكس لنا الوجه الآخر لعالم الرفاهيات تراجعاً حقيقياً في تطبيق مفهوم الإنسانية، يكفي للتأكيد على ذلك حضور نشرة إخبارية واحدة لنقرأ من خلالها أن العالم قد بدأ يتخذ شكله الجديد الذي أصبحت فيه القيم محل اختلاف وأصبح فيه الضعفاء وقوداً لمعارك الأقوياء.

لم يحدث ذلك منذ زمن بعيد، فالحالة بدأت تتبدى بشكل جليّ منذ عقدين على الأكثر، أو ربما أُتيح لنا التعرف إلى شكل العالم الجديد بسبب ثورة الاتصالات وانتشار وسائل التواصل ذلك أن الأخبار باتت متاحة وبوفرة.

من غير المنطقي اعتبار أن ما يحصل الآن من فوضى واضطرابات هو وليد لحظة أو حقبة بعينها، فالانفجار الحاصل هو وليد تراكمات حصلت لوقت طويل، وبالأحرى فقد بدأ العالم بالتكشير عن أنيابه وإظهار حالة من الوقاحة في التعامل مع القضايا والأحداث، فمؤشرات الفقر الذي يصعد إلى الأعلى بسرعة قياسية وانتشار الجرائم واتساع خريطة الحروب لم تتغير بين ليلة وضحاها وإنما أصبحت أرقامها مكشوفة، وشكلت دليلاً على أن الصورة الملونة للعالم التي يعتقدها بعض منا ليست حقيقية أو على الأقل ليست متاحة لأفراد الجنس البشري كافة، يقاس على ذلك التمتع بالحقوق والحريات على سبيل المثال، إذ يتمتع بها قلة من أفراد الجنس البشري وذلك تبعاً إلى مكان الإقامة أو الحالة الاقتصادية للفرد والمجتمع.

لا يقتصر تردي الوضع الإنساني على القضايا الكبرى فحسب، فالتطبيع علناً وقمع الثورات بشكل يخالف حقوق الإنسان ليسا نهاية ما يحدث في العالم، إذ أرخى التوحش العام بظلاله على حياة الأطفال في الدول التي تعاني من حروب وكوارث، فبدأت تظهر على الجيل الجديد مظاهر الاكتئاب الحاد وانعدام الرغبة في الحياة وازدادت أعداد المقبلين على الانتحار، ومن لم يفعل ذلك فقد غرق في فخ التعاطي بهدف الغياب عن العالم الذي لم يعد مكاناً عادلاً لكثيرين منهم، عدا عن انتشار واستفحال الفكر المتطرف لدى من يضطرون إلى معايشة التنظيمات الإسلامية.

الصورة العامة ليست بذلك الجمال إذن والحياة ليست وردية بالنسبة إلى كثير منا، ما يتضح لنا الآن التناقض الصارخ بين شقي اللوحة وظهور تضاد غير حميد بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، فيما يغضّ أولي الأمر وذوي المصلحة أبصارهم عن وجود تلك الفجوة ولا يكتفون بعدم المساعدة فحسب بل يميلون إلى سياسة الهروب إلى الأمام لإقناع فئة معينة بما ليس حقيقياً.

وضمن هذه المتغيرات السريعة كلها يبقى المواطن العربي واقعاً في هوة القلق وعدم التأقلم في معظم الأحيان، أو يبقى أسيراً لمعاناة لم تنتهِ فلا يجد له مفراً من رحى هذا العراك سوى الانتحار أو الموت بجلطة دماغية، أو أزمة قلبية بسبب ما تعرض له من ضغوطات على صعيدي الحياة العامة والخاصة.

اختلفت أولويات الأفراد ولم تعد التفاصيل البسيطة التي يسعى الإنسان وراءها ويقدسها ذات أهمية، وأصبحت الحياة أكثر تعقيداً كما قلّ معدل الطمأنينة والسكينة في الروح الإنسانية

عرّت الأحداث المتسارعة في العقدين الأخيرين مفاهيم متحجرة كان الإنسان يعمل على استخدامها وتداولها، وكشفت فراغ بعض القيم التي لم تشكل سوى كونها مفاهيم فضفاضة لا تنسجم مع التطبيق.

اختلفت أولويات الأفراد ولم تعد التفاصيل البسيطة التي يسعى الإنسان وراءها ويقدسها ذات أهمية، وأصبحت الحياة أكثر تعقيداً كما قلّ معدل الطمأنينة والسكينة في الروح الإنسانية.

لا يشبه ما يعاني منه العالم مخاضاً عسيراً إنما يبدو أن العالم يفشل في إعادة خلق نفسه؛ تخبرنا بذلك رائحة الموت التي عششت في الطرقات، وانعدام إمكانية الأحلام والأمن للأطفال الذين ناموا في العراء على صوت قرع الجوع في بطونهم.

لقد بدأت الحياة تهرب من المدن المأهولة لتسكنها أشباح الماضي وفزّاعات المستقبل؛ نحاول جاهدين أن نمنح أنفسنا مساحة من الأمل لتطغى على صوت الرصاص غير أن الخاسر الوحيد في لعبة السياسة هو إنسانيتنا فيما لا ينتصر أحد إذ لا يربح إلا الموت.