وجدانيات سورية على هامش انتخابات تركيا

2023.05.18 | 06:53 دمشق

وجدانيات سورية على هامش انتخابات تركيا
+A
حجم الخط
-A

غالباً، تُعرِّف التلفزات العربية ضيوفها حين يكون الحدث تركياً على النحو التالي "باحث مهتم بالشؤون التركية" أو "مختص بالشأن التركي". أما أنا فلن أدخل هنا من هذا الباب. ليس فقط لأنني لست مهتماً ولدي ما يشغلني أكثر، بل لأنني حتى لا أجيد اللغة التركية لأطّلع كما يجب على أوضاع البلد الذي أقيم فيه منذ أكثر من أحد عشر عاماً، وهذا تقصير مني بالتأكيد. مع ذلك سأغامر وأقتحم هذا الميدان بطريقتي. دون أن أعذّب نفسي بالبحث عنها، كانت الانتخابات التركية البرلمانية والرئاسية، تحيط بي وبعائلتي وبمنزلي وبالحي الذي أسكنه وفي كامل البلد في الشهور الأخيرة. ما جعل الشأن التركي هو من اختصَّ بي.

تابع السوريون الانتخابات كلٌّ من موقع إحداثياته الجغرافية والسياسية. في مناطق شرق الفرات وغرب الفرات، وفي مناطق سيطرة الأسد. كما تابعها السوريون في تركيا، وفي أوروبا وباقي دول العالم. إذا كان كرد تركيا يصوتون لحزب العدالة ورئيسه أردوغان بأعداد ليست بالقليلة، فإن كرد سوريا مع استثناءات نادرة لم يتمنوا فوزه، ويأتي موقفهم بسبب احتلال تركيا لمناطق ذات غالبية كردية في سوريا، إضافة إلى موقف تاريخي متجذّر لدى معظمهم من تركيا أيّاً كان المرشح. باقي السوريين العرب وغيرهم، في الشمال الغربي وفي تركيا، من يستطيع التصويت منهم ومن لا يستطيع، يتمنون بغالبيتهم فوز العدالة والتنمية. بعضهم ليس تأييداً لسياساته، وإنما لاختيار الأقل ضرراً على السوريين حسب تقديراتهم ومعاناتهم في السنوات الأخيرة. يقارنون بين خطاب العدالة والتنمية وخطاب الشعب الجمهوري، ويلمسون ما يعلنه وما يستبطنه خطاب الأخير من مواقف تجاههم وحتى تجاه نظام الأسد، فيميلون إلى الضفة الأخرى.

لم أستطع تماماً سبر مواقف السوريين في مناطق سيطرة الأسد، فهم، كما نعلم، لا يستطيعون إبداء رأيهم بحرّية، وهذا مفهوم. أما موالو الأسد فهؤلاء حتماً يعادون أردوغان وحزبه، ويتمنون فوز خصومه أيّاً كانوا. أما السوريون الموزعون على بلدان العالم فكانت آراؤهم متباينة، حتى أن الإيديولوجيا لم توحّدهم، فقد تابعت علمانيين منقسمين بين من يتمنى فوز أردوغان باعتباره لن ينكّل بالسوريين، وبين من يتمنى خسارته باعتباره ليس أكثر رأفة بهم من خصومه.

التجارب الانتخابية التي عشتها في سوريا، بمعنى أنها تجارب انتخابات ديمقراطية حقيقية، دون أي ضغط أو إكراه، كانت فقط في سجن صيدنايا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي

كمعظم السوريين لم أكن أشعر قبل ثورة عام 2011 بقوة الشارع، الذي هو حاصل قوة أفراده. ومع ذلك بدأت ألمس هذه القوة أكثر بعد خروجي من سوريا، ومعايشتي مجتمعاً يصل إليه قادة البلد عبر صندوق الانتخابات. أعتقد أن السوريين ممن عاشوا في بلدان ترسخّت فيها الديمقراطية بقوة أكبر من تركيا، لا بدّ أنهم شعروا بهذا بطريقة أشد مما شعرت بها هنا. يعتبر التركي هنا، أن لصوته دوراً حاسماً، رغم أنه فرد واحد من بين أكثر من ستين مليون ناخب، بينما ما زالت لدى السوريّ المجنّس بقايا وإرثٌ مما عاشه في سوريا. ما زال يحمل إحساس اللا جدوى، وأن رأيه وصوته لن يقدّم ولن يؤخّر كما اعتاد دوماً.

عنّي شخصياً، واقعياً وليس على سبيل الطرفة، فإن التجارب الانتخابية التي عشتها في سوريا، بمعنى أنها تجارب انتخابات ديمقراطية حقيقية، دون أي ضغط أو إكراه، كانت فقط في سجن صيدنايا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. أقدّرُ أنكم تبتسمون الآن، مع ذلك سأتابع. كانت إدارة السجن تفرض رئيساً لكل جناح من بين السجناء أنفسهم، باستثناء أجنحتنا حيث تم الإصرار على اختيار الرئيس بالانتخاب العام، وللأمر تفاصيل لست بواردها الآن. كانت انتخاباتنا تحدث بين فترة وأخرى، يترشح عدد من الأشخاص وتصوت هيئة الناخبين وعددها أكثر من مئتي معتقل. يتم فرز الأصوات وعدّها، ليظهر بعدها اسم المرشح الفائز الحائز على ثقة الناخبين، والحاصل على أعلى الأصوات (للأمانة، لم يكن لدينا دورة ثانية، فيما لو لم يتعد المرشح حاجز النصف زائد واحد). وكذا انتخابات اللجنة الاجتماعية التي تدير شؤوننا من النواحي المادية والاجتماعية. للأسف عشت تجربتي الديمقراطية والانتخابية تلك لسنوات طويلة ومريرة. أما بعد السجن فلم أعايش أي تجربة أخرى مماثلة في سوريا، ولا قبل ذلك طبعاً. حتى عشتها، على نحوٍ غير متوقع، هنا في إسطنبول هذا الأسبوع.

يتدرب مئات آلاف السوريين في السنوات الأخيرة، في كثير من بلدان العالم، على عمليات الانتخاب الحقيقية وعلى الاختيار الحر، ومما يصل من تجاربهم فإنهم، إضافةً إلى فرحتهم بأول تجربة لهم في هذا الحقل، بدوا غالباً مترددين. وأحياناً غير مدركين تماماً لأهمية صوتهم. هل يمكن وصف حالتنا تلك على أنها من مفاعيل "صدمة الحرّية"؟ ربما، خصوصاً وأن السوريين عاشوا أجواء كابوسية خلال تجارب ما يسمى "استفتاء" على الرئيس الأوحد خلال عقود. والحرية كما نعلم جميعاً، مُربِكة في بداياتها وتحتاج بعض التدريب، لتتمكن من أن تكون جزءاً أصيلاً من بنية الفرد.

التزمنا زوجتي وأنا صمتاً مطبقاً متعمداً ومتفقاً عليه مسبقاً. كانت زوجتي تحذرني كلّما خرقته وهمست لها بكلمة ما. كنا حذرين من اكتشاف الناخبين الأتراك أن أصولنا سوريّة

باستثناء بضعة مُعمّرين ربما، فلا يوجد سوري اليوم قد عاش تجربة الانتخابات الحرَّة في بلده. والأكبر سنّاً هم من سمعوا من الآباء عن تلك التجارب خلال فترة الخمسينيات. لذا نلحظ أحياناً  بعض الخفة في الآراء عن تلك التجارب الجديدة التي يختبرها سوريون آخرون. مع ذلك، ليس حلماً بعيد المنال، مع تغييرات غير متوقعة حتى اليوم، أن ينقل هؤلاء، فيما لو عادوا بوعيهم الجديد وتجاربهم إلى سوريا، خبرات مميزة ليست بالقليلة عن واقع الديمقراطية والانتخابات الحرة والشفافة والنزيهة في البلدان التي عاشوا بها، ما قد يضخّ وعياً مغايراً حول تلك المسألة المجهولة، إلى حدٍّ كبير، سوريّاً.

بينما كان الأتراك، وهم يصطفون بالدور من أجل التصويت، يتبادلون الأحاديث فيما بينهم، كما يفعل كل الناس الطبيعيين، فقد التزمنا زوجتي وأنا صمتاً مطبقاً متعمداً ومتفقاً عليه مسبقاً. كانت زوجتي تحذرني كلّما خرقته وهمست لها بكلمة ما. كنا حذرين من اكتشاف الناخبين الأتراك أن أصولنا سوريّة، مما قد يعرّضنا لتعليقات عنصرية من أحدهم، لن نحب سماعها، ولم يكن لنا أن نتنبأ بقدرتنا على ضبط ردة فعلنا عليها، فيما لو حصلت. لكني أخمِّن أن هناك أمراً آخر أكثر عمقاً، وهو أننا كنا نخوض تجربة لم نألفها من قبل، ونراقب المحيط بحذر الجاهل بكيفية سير الأمر، ونشعر أننا محاطون بأناس، سيكتشفون بعد قليل حتماً، عدم معرفتنا عن الانتخابات الحرّة يوماً. لكننا أخيراً فعلناها. فعلناها كأي سورييَن تجاوزا الستين من العمر ينتخبان للمرة الأولى.