وباء كورونا والثقافة السياسية الأميركية

2020.12.07 | 23:02 دمشق

960x0.jpg
+A
حجم الخط
-A

بلغ عدد حالات الإصابة بفيروس كوفيد 19 في الولايات المتحدة أكثر من 14 مليون إصابة مؤكدة ونصف أما عدد الوفيات فقد فاق 280 ألف وهو ما يعادل تقريبا خمس الوفيات عالميا التي بلغت أكثر من مليون ونصف، وللأسف لا تظهر كل المؤشرات الوبائية على انخفاض في عدد الحالات بل العكس شهدنا زيادة كبيرة في عدد الحالات خاصة، كما أن الفارق بينها وبين الدولة التي تليها في عدد حالات الإصابة وهي الهند ما يقارب عشرة ملايين إصابة مؤكدة، فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن الهند هي دولة نامية ويفوق عدد سكانها أكثر من مليار نسمة، نجد حجم الفارق الكبير بين ما وصلت إليه الولايات المتحدة اليوم التي تملك أهم وأبرز جامعات في العالم ولديها أهم المشافي الطبية وأكثر عدد أطباء العالم من الحاصلين على جوائز نوبل للطب، فما الذي حصل؟ ولماذا لم تضرب الولايات المتحدة نموذجا رائداً في الحد من انتشار الفيروس أو على الأقل تخفيف عدد الوفيات.

في الحقيقة هذا السؤال يسأله المعلقون والمحللون الأميركيون بشكل يومي تقريباً، ولكن البعض وجد الإجابة ليس في النظام الصحي الأميركي أو في طريقة إدارة الأزمة الصحية خلال انتشار وباء كورونا، وإنما في الثقافة الأميركية.

الحزب الجمهوري اليوم فقد ما يسمى مركزه مع ترامب الذي حول الحزب إلى حزب يميني شعبوي يمتلئ مؤيدوه بالإيمان بأفكار المؤامرة أو الدولة العميقة

كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية السابقة ذكرت في كتابها أن الأميركيين حكمهم صعب وما يزيد الأمر صعوبة هو النظام الفيدرالي الذي يعطي الصلاحيات الكاملة لحكام الولايات فيما يتعلق بإدارة الأزمات الصحية وبالتالي من المستحيل التنسيق بين الولايات الخمسين خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الانقسام الحزبي الشديد بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري وهو ما انعكس على حكام الولايات بحسب انتمائهم الحزبي، وهو ما جعل ردة الفعل في كل ولاية تنقسم حسب الانتماء الحزبي لحاكمها وهو ما أصبح يطلق عليه سياسات الوباء، فمع بداية الوباء كان يسيطر على ولايات ديمقراطية خاصة نيويورك وكاليفورنيا اللتين أظهرتا صعودا لحاكمي الولايتين على الصعيد الوطني بقدرتهما على قراءة المؤشرات بشكل جيد واتخاذ القرارات المناسبة، أما اليوم فارتفاع الحالات كان في الولايات الحمراء التي يسيطر عليها الجمهوريون مثل تكساس وفلوريدا التي أظهر فيها حاكم فلوريدا استخفافا بالفيروس من البداية وقام بتصريحات شبيهة بتصريحات ترامب وضعه في دائرة الضوء وأثار السؤال مجدداً لماذا انتهت قيادة الحزب الجمهوري إلى قيادة شعبوية غير قادرة على التصالح مع العلم خاصة فيما يتعلق بارتداء الكمامات وتحولت الكمامة إلى رمز سياسي لقمع الحكومة لمواطنيها.

الحزب الجمهوري اليوم فقد ما يسمى مركزه مع ترامب الذي حول الحزب إلى حزب يميني شعبوي يمتلئ مؤيدوه بالإيمان بأفكار المؤامرة أو الدولة العميقة التي تتآمر على ترامب، صحيح أن الأحزاب في الولايات المتحدة يطلق عليها اصطلاحا أحزاب لكنها في الحقيقة أقرب إلى ائتلاف حزبي فكلا الحزبين يعبّرُ عن تحالف طبقي اجتماعي واقتصادي وسياسي يضم إثنيات وأقليات أميركية مختلفة يجمعها فقط تعبير الحزب عن مصالحها لأنها تعرف تماما أن وجودها منفردا لن يضمن مصالحها في هذه القارة الشاسعة التي تضم خمسين ولاية وتمتد على مدى آلاف الأميال، وبالتالي لابد لها ولأسباب ذرائعية محضة أن تدخل في تحالف حزبي يعبر عن الحد الدنى من المصالح التي ترغب بها، فمثلا الحزب الديمقراطي أصبح يضم ممثلي الطبقة الوسطى والجامعيين من حملة الشهادات واليسار الليبرالي بالمعنى الأميركي والأقليات الإثنية ولاسيما القادمين من أميركا اللاتينية وبشكل أقل السود والمدافعين عن حقوق المثليين وحقوق البيئة وغيرهم أما الحزب الجمهوري فبات يضم الملاك وأصحاب العقارات والمحافظين والمدتينين على اختلاف أديانهم لكن الإنجلكيين منهم بشكل خاص ومعارضي الإجهاض وحقوق المثليين وغيرهم، وكما نجد أن هناك ائتلافا عريضا يضم كل حزب فإن ما يدفعهم للدخول في هذا الائتلاف هو رغبتهم في هزيمة الطرف الآخر ذي الائتلاف الواسع ولتحقيق ذلك لابد من ائتلاف واسع أيضا قادر على هزيمة الطرف الآخر.

الحزب الديمقراطي أصبح رائدا في الدفاع عن فكرة الحقوق الصحية للمواطنين الأميركيين بينما يعارض الحزب الجمهوري إصلاح نظام التأمين الصحي

وما يزيد حجم المفارقة هو أن الحزب الديمقراطي أصبح رائدا في الدفاع عن فكرة الحقوق الصحية للمواطنين الأميركيين بينما يعارض الحزب الجمهوري إصلاح نظام التأمين الصحي بحجة الارتفاع الحاد في مبلغ الاشتراك الشهري الذي على العائلة أو الفرد أن يدفعه شهريا لشركة التأمين الصحي كي يتمكن من الإبقاء على تأمينه وبنفس الوقت انعدام المنافسة بين الشركات الصحية المشتركة في هذا البرنامج في الكثير من الولايات الأميركية بحيث أصبح هذا البرنامج أشبه بالاحتكار وليس قائماً على المنافسة.

بالـتأكيد هذه الحجج قوية كفاية كي تقنع الناخب الأميركي بالتصويت للحزب الجمهوري الذي جعل من فكرة إلغاء التأمين الصحي شعارا انتخابيا له ونجحت بشكل كبير في نجاح الرئيس ترامب.

الآن عندما وصل الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض ويريد تنفيذ وعوده الانتخابية الكثيرة التي قطعها ومنها إلغاء التأمين الصحي، تصاعدت المظاهرات اليومية حتى في الولايات الجمهورية خوفا من إلغاء التأمين للملايين من الأميركيين، لذلك استبدل الجمهوريون شعار إلغاء التأمين الصحي لأوباما بشعار آخر أو إلغاء ومن ثم استبدال، أي أنه قبل إلغاء التأمين الصحي علينا أن نضع بديلاً له، وهو ما لم يفعله ترامب أبداً.

المشكلة الرئيسية تكمن في أن الرئيس ترامب حول الحزب الجمهوري وقاعدته إلى حزب شعبوي معارض للحكومة المركزية مليء بنظريات المؤامرة وهو ما يجعل معارضا لكل سياسات العزل الصحي أو وضع الكمامة وغيرها وهو ما يجعل القدرة في السيطرة على الوباء شبه مستحيلة ولا أمل للولايات المتحدة اليوم سوى بتطبيق اللقاح حتى توقف عدد الوفيات الذي يتصاعد بشكل يومي وبشكل غير مسبوق ابداً.

ولذلك تبقى مسألة التعامل مع وباء كورونا تعكس بشكل كبير الثقافة الأميركية وسياساتها، هي ليست مسألة صغيرة بكل تأكيد، فهي ترتبط وتتشعب في طريقة نشوء الولايات المتحدة وفكرة النجاح فيها، وكما أن تغيير الثقافة ليس بالمسألة الهينة أو السهلة أبدا تبدو مسألة الالتزام بمعايير السلامة العامة أشبه بالصراع داخل الثقافة ذاتها.