
تحتضن محافظة إدلب ما يقارب الـ 750 موقعاً أثرياً وفقاً لآخر الإحصاءات الرسميّة، تتوزع على مدنها المنسيّة العتيقة، التي قامت عبر التاريخ في جبال الزّاوية وباريشا والوسطاني والأعلى، بالإضافة إلى العديد من المواقع الأثرّية التي تعود لفترات وحقب زمنيّة مختلفة أبرزها البرونز والكلاسيكية.
شهدت المواقع الأثريّة في عموم المحافظة، خلال السنوات القليلة الماضية كثيراً من التجاوزات والانتهاكات تمثّلت في التدمير والنهب عبر الحفر العشوائي والتخريب، ساهمت خلال هذه الفترة تجمعات مؤسساتية من تخفيف وطأة الحرب على هذا الجزء المهم من تاريخ المحافظة وتحسين واقعه حسب الإمكانات المتوفرة.
مراكز مختصّة بديلة
بعد منتصف عام 2012 وبعد اتساع الرقعة الخارجة عن سيطرة النظام في محافظة إدلب، وجد مجموعة من الأكاديميين المختصين من حملة الشهادات أهميّة تشكيل مؤسسة بديلة عن مديرية الآثار والمتاحف التابعة لحكومة النظام، أطلق عليها "مركز آثار إدلب" وخاصةً بعد تسجيل عشرات الانتهاكات والتجاوزات التي طالت المواقع الأثريّة، وفيما بعد تأسس ما يُعرف بـ "مركز حماية التراث الثقافي" كتجمع رديف للمركز ينشط في مناطق مختلفة منها محافظة إدلب وأرياف حلب وحماة؛ مؤلف الفريق من 11 عضواً من الاختصاصيين في مجال الآثار المنشقين عن مؤسسات النظام.
"التحطيم أصاب مجسمات صلبان وكنائس تاريخية وأقواس تاريخية بدوافع دينية، وأخرى بهدف استخدامها في مواد البناء وباتت من الظواهر الشائعة بشكل كبير"
ويعتبر الباحث الأثري نايف القدّور من مؤسسي مركز حماية التراث في حديث لموقع تلفزيون سوريا، أنّ توثيق القطع الأثرية الموجودة ضمن الأسس العلمية وكذلك توثيق الضرر الذي لحق بالمواقع الأثرية والمباني التاريخية، بالإضافة إلى مشاريع الترميم وحماية المواقع عبر شبكة من الحراس، هي أبرز أهداف المركز وهي لا تختلف من حيث المضمون عن عمل مركز آثار إدلب.
انتهاكات موثقة
تختلف أشكال الانتهاكات التي طالت المواقع الأثرية والمدن المنسيّة في محافظة إدلب، إلّا أنّ أخطرها القصف والتدمير وتكسير الحجارة الأثرية، وفقاً لعبد السلام الحمّو رئيس شعبة المباني في مركز آثار إدلب الذي لموقع تلفزيون سوريا " إن الخطر الثاني الذي يهدد الآثار هو التجريف والتنقيب العشوائي، حيث وثق مركزنا عدّة غارات استهدفت مواقع أثرية هامة أبرزها (سرجلة، خربة الخطيب، وادي معرتحوم وخربة حاس) بالإضافة إلى متحفي إدلب ومعرة النعمان الوحيدين بالمحافظة، كما تعرض موقع إيبلا الأثري إلى دمار لحق القصر الملكي وأربعة معابد وسور الموقع، إثر غارات جوية استهدفت الموقع بشكل مباشر."
وتابع الحمّو "أما أهم المواقع التي تعرضت للتحطيم هي (بابسقا، البارة، باقرحة) وتكمن أهمية المواقع المذكورة من كونها مدرجة على قوائم التراث العالمي، وكذلك مواقع (بحيو في الجيل الأعلى، الفاسوق في الجبل الوسطاني) وهي أقل أهمية عن تلك المواقع، كما أنّ حجارتها تعرضت لتكسير متعمّد". وبحسب محدثنا فإن التحطيم أصاب مجسمات صلبان وكنائس تاريخية وأقواس تاريخية بدوافع معتقدية منها، وأخرى بهدف استخدامها في مواد البناء وباتت من الظواهر الشائعة بشكل كبير، حيث يوفّر الأهالي الحجارة المستخدمة في البناء من تكسير المواقع الأثرية، أمّا ظاهرة التجريف فقد شهدها أكثر من 11 تلاً أثرياً حيث نقلت تربتها وبيعت.
زحف العمران والتجريف
يضاف إلى ما سبق ظاهرة زحف العمران إلى المواقع التاريخية، وغالباً ما تكون من سكان المناطق أو مستثمرين، وكان آخر التعديات في تل دينيت الأثري بمنطقة قميناس بريف إدلب، حيث اشترى تاجر أرض بجانب التلّ، وبدأ بنقل التربة وبيعها بشكل علنيّ، بحسب وسيم خلف وهو ناشط إعلامي من المنطقة.
وحول ذلك أكد "الحمّو" أنه تمّ التواصل مع الأشخاص المسؤولين عن عملية التجريف، واطلاعهم على كشف تسجيل الموقع، لكن عدم اعتماد قوانين في قضاء موحّد بكافة المناطق يحول دون نجاح مساعي الحد من هذه الجرائم بحقّ التراث والآثار. وأشار "الحمّو" إلى أنّ أكثر من 140 موقعاً تعرض لتنقيب عشوائي وسري في عموم المناطق التي تمّ كشفها والاطلاع عليها، معتبراً أنّ هناك مناطق إضافية لم يتم الكشف عنها أو الوصول إليها بعد.
إجراءات للحد من التجاوزات
ويبذل مركز آثار إدلب جهوداً كبيرة في توثيق الانتهاك والتجاوزات وذلك عبر إعداد تقارير توصيفية للمواقع الأثرية بشكل دوري، ويتم رفعها للمنظمات العالمية وعلى رأسها "يونسكو". ويعد كل تقرير بعد تشكيل من الاختصاصيين، تتفقد الموقع، وتصف الأضرار بشكل دقيق؛ من تكسير وحفر عشوائي أو عمران حديث، وتضع جملة من التوصيات في نهاية التقرير.
وعن وضع قواعد قانونية تساعد على معاقبة المتسببن بالتعديات، وقال رئيس شعبة المباني في مركز آثار إدلب، إنهم يعملون بشكل كبير على ذلك، للحد من الظواهر السلبية، ضمن قضاء موحد وبالتنسيق مع الشرطة المدنية والمجالس المحلية، بالإضافة إلى تشكيل قاعدة بيانات للمواقع وتحديثها بشكل مستمر وفقاً للتغيرات التي تطرأ على تلك المواقع، كما عمل المركز على حفظ 1700 قطعة أثرية من الفخاريات جمعها خلال السنوات الماضية بالتعاون مع الأهالي، حتى يحين عرضها، رمموا أيضاً بشكل إسعافي أساسات معبد عشتار في موقع إيبلا تجنباً لانهياره.
بدوره أكد الباحث نايف القدور على أهمية تكثيف حملات التوعية والندوات الثقافية، التي تحث على ضرورة حفظ الإرث التاريخي وحمايته، في ظل غياب الوعي بين الأهالي وهو ما يعمل عليه مركز حماية التراث منذ تأسيسه.
المتاحف عرضة للقصف
تقتصر مهمة المراكز الأثرية الآن على حفظ مقتنيات المتحفين الوحيدين في محافظة إدلب، باعتبارهما غير مفعّلين،
"تعرض متحف المعرة لقذائف من معسكري الحامدية ووادي الضيف، ولحقه أضرار كبيرة، وكذلك القت الطائرات المروحية منتص عام 2015 حاوية متفجرة وسط المتحف"
نتيجة القصف المستمر من قبل الطائرات الحربية إلى جانب توثيق الانتهاكات وتقديم الحلول الإسعافية، وهما متحف مركز مدينة إدلب، ومتحف معرة النعمان أو ما يعرف تاريخياً بـ "خان مراد أسعد باشا"، الذي تم تصنيفه من أهم المتاحف في الشرق الأوسط لاحتوائه على 2000 متر مربع من لوحات الفسيفساء الأثرية، أهمها لوحة "هرقل"ويمتد على رقعة تصل إلى 7 دونمات.
ويسرد لموقع تلفزيون سوريا الموظف السابق في متحف المعرة والقائم على أعماله حالياً المهندس عبد الرحمن اليحيى، تفاصيل الهجمات التي استهدفت المتحف، قائلاً: "تعرض المتحف لقذائف من معسكري الحامدية ووادي الضيف، ولحقه أضرار كبيرة، وكذلك القت الطائرات المروحية منتص عام 2015 حاوية متفجرة وسط المتحف أدت إلى انهيار المسجد بشكل كامل وانهيار جزئي في التكية والجدران، والبهو والقطع الأثرية. كما تعرض لغارة جوية من طيران النظام بصاروخين فراغيين منتصف عام 2016 أدت إلى انهيارات وأضرار كبيرة، أما الاستهداف الأخير كان مطلع العام الجاري بطائرة روسية."
وتتولى كتيبة أمنية تتبع للجيش الحر مسؤولية حماية المتحف، وهي مكونة طلائع المقاتلين الذي حرروا مدينة معرة النعمان ومتحفها الأثري ومنذ ذاك الوقت تواظب على حمايته وحفظ مقتنياته، وفقاً لأحمد نهاد أحد عناصر الكتيبة الأمنية، وأوضح نهاد أن الكتيبة تقوم بمهامها رغم خطورتها البالغة، حيث تعرض عناصرها لإصابات عديدة إثر الغارات الجوية.
وتسلم مركز آثار إدلب مؤخراً إدارة متحف مدينة إدلب، بعد أن كان يخضع لإدارة عدد من الأكاديميين المستقلين على رأسهم الدكتور أنس زيدان مدرس في جامعة إدلب، حيث أوضح "الحمّو" أن مهمتهم القادمة في متحف إدلب ستكون جرد القطع الأثرية المتبقية فيه، وتوثيقها والعمل على تسجيل القطع المفقودة ورفعها ضمن تقارير إلى منظمة "يونسكو" بهدف البحث عنها وإعادتها إلى متحف إدلب، موضحاً أن المتحف أيضاً تعرض لغارات جوية أحدثت أضراراً في جزئه الشمالي الغربي وفي السور الحديدي إلى جانب تخريب في المقتنيات والمكاتب.