"هنا الدكتاتور".. احشوا الأثير بالكلمات عوضا عن الرصاص

2023.03.07 | 07:24 دمشق

"هنا الدكتاتور".. احشوا الأثير بالكلمات عوضا عن الرصاص
+A
حجم الخط
-A

كل ما يفعله السلاح العادي يمكن لسلاح الإعلام -البث الإذاعي بأشكاله التقليدية والمتطورة- إنجازه، لكن فقط وفق الآلية التي يحددها القادة بأقنعتهم المختلفة، هذا السلاح يطلق أفكاراً للتأثير بسلوك العامة، بدلاً من الطلقات النارية، محشواً بالمعلومات بدلاً من (البارود)، ينطلق من أجهزة بث عوضاً عن مدفع أو راجمة صواريخ، يُحدث ضجّة واضحة وجلية، ويسبب أضراراً جسدية وعقلية، ويتدخّل في حياة الشعوب التي قد تشعر بأن هناك أمراً يدفعها إلى القلق، لكن بسبب الطبيعة التقنية للسلاح الجديد لا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم بطريقة عقلانية وواضحة، وبالتالي لا يعرفون كيف يتخلصون من سيطرته.

البث الإذاعي.. سلاح القادة

في الحروب، يركّز الإعلام الموجه على الصراع، فيحرف انتباه الشعوب عن الهدف الحقيقي للسياسة، التي توجّه تلك الرسائل المزيفة، ويضع الرأي العام في خدمة قضية لا يعرف المتلقي جوهرها، بل لا يكاد يدرك إلا ظاهرها فقط.

الجوهر الحقيقي للسياسة مبنيٌّ على اجتهادات ومصالح فردية، وبالتالي، التاريخ هو عبارة عن صراع لنيل السلطة والنفوذ والثروة، لكن القادة يبذلون جهدهم لتحريف وإخفاء هذه الحقيقة من خلال تسويق وترسيخ النظرية القائلة بأن التاريخ يُصنع من صراعات فكرية محقّة وموضوعية وليست فردية: أي صراع الأنظمة السياسية، والأديان، والطبقات الاجتماعية، وغير ذلك.. فهم استطاعوا قولبة التوجه الفكري العام، مهما كانت أيديولوجيته، ليتماشى مع مصالحهم ومتطلباتهم الخاصة. والشواهد التاريخية على ذلك كثيرة، من بينها "هتلر" الذي وظّف الإعلام النازي في الحرب العالمية الثانية، لمصلحة حكمه، إذ كانت المدافع تدكّ معاقل (الأعداء)، فعمل هتلر على "شحذ نصل كلماته" وأطلقها في الأثير، لتلقى تأثير النيران نفسه، إلا أنه تأثيرٌ ذو مدىً أطول، تناقلته الأجيال والعقول ليصبح نظرياتٍ وأمثلةً يذكرها التاريخ.

أدرك هتلر أهمية الإعلام في خدمة حربه فحوّل البث الإذاعي إلى آلة للدعاية النازية؛ وكُلف بإدارة مهمة (غسيل العقول) "جوزيف جوبلز"، والذي آمن بدوره أن الإذاعة بدأت تأخذ مكان الصحف في ذلك الوقت؛ فقال عنها: "ما كانت عليه الصحافة في القرن التاسع عشر، ستكون عليه الإذاعة في القرن العشرين".

وتحت إشرافه المباشر، عيّن جوبلز، "يوجين هاداموفسكي"، رئيساً لغرفة الإذاعة، وكلفه بضمان التزام البث الإذاعي الألماني بما يتناسب مع القالب الاشتراكي القومي، وأكّد أن أي شخص يعارض هذا الموقف يجب إبعاده من منصبه.

وفي ذلك الوقت، كان من الصعب ظهور منافس للقائد البارز الوحيد (إعلامياً) على عكس العصر الحديث، إذ تبدو منافسة الزعماء بالتأثير على الرأي العام أكثر صعوبة؛ ليس فقط مع أقرانهم من السياسيين، بل مع أباطرة المال والاقتصاد والقادة الدينيين كذلك.. لكن هذا الأمر الذي ينطبق على دول عديدة في العالم، لا نجده في الأنظمة الديكتاتورية التي تستغل هذه الشخصيات كما تفعل في المؤسسات الإعلامية لخدمة مصالحها فقط، ونرى ذلك في أنظمة مثل سوريا وروسيا وإيران، وغيرها من الأنظمة القمعية.

الدكتاتور في كل بيت

الخطوة الأخرى التي عملت عليها النازية هي توفير جهاز الراديو الحديث -آنذاك- في كل منزل لتصل الرسائل للعامة المستهدفين بتأثير هتلر حتى قبل النخبة، وبالفعل كان سعر "الراديو" رخيصاً جداً؛ وكتب المؤرخ "أديلهيد فون سالديرن" في صحيفة غربية: "حتى العمال كان بإمكانهم تحمل كلفة (فولكسيمبفنجر) الجديد"، بالإشارة إلى جهاز الراديو.

وعبرَ الخطابات الرنانة حاول هتلر إقناع الناس بضرورة الحرب، كما تم بث برامج موجهة لفئة الشباب لإقناعهم بالانضمام إلى الجيش، وإقناع النساء بدعم رجالهم ورفع معنوياتهم؛ باختصار استطاعت الدعاية النازية التسلل إلى تفاصيل حياة الألمان.

وقال المؤرخ "أندرو ستيوارت بيرجرسون"، في مجلة الدراسات الألمانية: "لقد أكدوا على البرمجة الموجهة نحو المستهلك كوسيلة لبناء توافق في الآراء بين الشعب الألماني وصرف انتباهه عن التضحيات والدمار الذي يجري باسمه".

خلال عام 2018 حاول بشار الأسد انتهاج مخطط والده، في السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام، وطرح حينذاك حظر الستلايت وحصر البث التلفزيوني الفضائي بشبكات "كابل" تغطي مناطق سيطرته، وتشابه خدمة "iptv" المقترحة خدمة "Manbang" المطبقة في كوريا الشمالية

وعلى عكس ذلك، شهدت سوريا في التسعينيات منع العامة من الوصول إلى الأجهزة الحديثة -حينذاك- وهي الصحون اللاقطة (الستلايت) خوفاً من وصول الأفكار التي تحمل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وإلى آخره مما اعتبره الأسد وقتئذ خطراً عليه وعلى سلطته المطلقة في البلاد. أراد الأسد حينذاك أن يكتفي السوريون بالقنوات المحلية التي تبث أفكار "حزب البعث" وتمجّد الحاكم "إلى الأبد، والجدير بالذكر أن سجونه كانت تعجّ بمعتقلي الرأي والمعارضين لسلطة (الدولة) من قبل أن تظهر الثورة التكنولوجية.

خلال عام 2018 حاول بشار الأسد انتهاج مخطط والده، في السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام، وطرح حينذاك حظر الستلايت وحصر البث التلفزيوني الفضائي بشبكات "كابل" تغطي مناطق سيطرته، وتشابه خدمة "iptv" المقترحة خدمة "Manbang" المطبقة في كوريا الشمالية، والتي تتحكم بما يشاهده العامة عبر باقات محددة مصدرها الأساسي القنوات الرسمية وشبه الرسمية، أي تلك التي يسيطر عليها النظام. إلا أن أحلام الديكتاتور الصغير ارتطمت بعقبات كثيرة، إذ تحتاج هذه السياسة الإعلامية إلى تقنيات لم يستطع توفيرها.

ومع التطوّر التكنولوجي خلال الحقب المعاصرة، اختلفت النظرة نحو أجهزة البث بأنواعها، وتم تحوير المحتوى بما يتوافق مع السياسة (المطلوبة) للأنظمة، والتي يقررها فرد واحد يحكم ما يراه قطيعاً من العامة الغافلين تنحصر معرفتهم بما يريده فقط، ويتوافق مع استمرارية حكمه لا أكثر.

الإذاعة "بريد المنفيين"

الأمر الذي لم يكن في حسبان هتلر، هو أن أجهزة الراديو المصممة للاستقبال المحلي فقط، تمكّنت من التقاط بث محطات دولية مثل BBC"" وأحد أشهر البرامج التي بثتها كان للصحفي النمساوي المنفي "روبرت لوكاس" المقيم في العاصمة البريطانية لندن، والذي كان يعد برنامجاً ساخراً يحاكي الشعب الألماني بعكس أسلوب النازية المعتمد على الخطابات، ما جعله يترك تأثيراً متزايداً يوماً بعد يوم.

ورغم أن عقوبة الاستماع للإذاعة (المعادية) كان الإعدام في ألمانيا، فإن العديد كانوا ينتظرون برنامج "إنه نفس الرجل مجدداً" وبرامج أخرى ساخرة تبعته، تكشف زيف الدعاية النازية، ويستمعون إليها سراً، لمعرفة الحقيقة على شكل "مشفّر" كان من المحتم عليهم فك رموزه مما دفعهم على الصمود أمام رعب النازية وتجنب الوقوع في فخ التبعية لها.

وبعد ما سمّي بالثورة التكنولوجية كانت الإذاعة بشكلها التقليدي وبأشكالها المتطورة من التلفاز إلى وسائل التواصل الاجتماعي، صوت المنفيين: أمثال لوكاس وضحايا الحروب الآخرين.. ولئن الشعوب لا تبدأ أي شيء من تلقاء نفسها فعلياً، مثّلت وسائل الإعلام إضافة إلى وسائل التواصل الاجتماعي شكلاً من أشكال قيادة العامة، وهو ما أسهم في خدمة القضايا الإنسانية كما خدم الحروب تماماً.

وإحدى القضايا الإنسانية التي أوصلها الإعلام في التاريخ المعاصر، هي القضية السورية، بكل تلك التسميات التي أطلقت على الشعب السوري من "نازحين ولاجئين ومعتقلين إلى ضحايا وناجين"؛ حيث استطاع البث بأشكاله المختلفة إيصال أصوات السوريين، لكشف حقيقة النظام القمعي، الذي حاول إخفاء جرائمه لعشرات السنوات وبدعم من حلفائه، وتمكنت تلك الأصوات أن تترك أثراً  واضحاً على المجتمع الدولي لاستخراج قوانين تحاصر نظام الأسد بشكل لم يكن يتوقعه مطلقاً؛ ورغم أن ذلك غير كافٍ لتحقيق أمل السوريين بالحرية الكاملة من النظام وأجهزة مخابراته التي تمدّ شباكها داخل وخارج البلاد، فإن إسقاط مخططات النظام، لم يكن بالخطوة السهلة أبداً، ولن تكون الأخيرة.. وعليه، تضافر المؤسسات الحقوقية والإنسانية العربية والغربية هو شيء جدُّ مهم لتفعيل قوانين المحاسبة عبر قرارات الأمم المتحدة التي تنص على إنصاف الشعب السوري بنيل حريته ضمن دولة مدنية تعددية تكفل كامل حقوقه على كل المستويات، وأهمها حرية الرأي، ابتداءً من الفرد وصولا إلى المؤسسة.

 

كلمات مفتاحية