هل ينهار المجتمع السوري؟

2021.07.06 | 06:25 دمشق

tht_alkrsy1sghyr2.jpg
+A
حجم الخط
-A

قد يتعرض مجتمع ما لعوامل أو ظروف تضعف إلى حد كبير الروابط التي تربط أفراده أو جماعاته، هذا الضعف في حال استمراره وتفاقمه، قد يصل إلى التخلي عن هذه الروابط ونسفها وبالتالي تفكك هذا المجتمع، وهو ما يسمى في علم الاجتماع بـ "الانهيار المجتمعي".

يحفل التاريخ بقصص كثيرة لمجتمعات تفككت وانهارت، ومنها ما اندثر أو تلاشى أو امتصته مجتمعات أخرى، وما يزال علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ..إلخ، يبحثون في العوامل التي توصل مجتمع ما إلى الانهيار، وسيظل هذا الهاجس محط دراسة وبحث مادامت البشرية قائمة.

يرى علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخون، وعلماء الاجتماع أن هناك تفسيرات متعددة لانهيار المجتمعات، تنطوي على أسباب كثيرة مثل التغيير البيئي، واستنفاد الموارد، التمكين غير المستدام، وتدهور التماسك الاجتماعي، وزيادة عدم المساواة، وتراجع القدرات المعرفية، وانهيار الاقتصاد..إلخ.

لأن المجتمعات البشرية هي أنظمة معقدة، فإن العوامل المشتركة التي قد تساهم في تدهورها – الاقتصادية، والبيئية، والديموغرافية، والاجتماعية، والثقافية - يمكن أن تتفاعل فيما بينها، فتؤدي واحدة منها إلى أخرى، لتصل إلى مرحلة تتغلب فيها على أي آليات من شأنها أن تحافظ على الاستقرار، فتحدث التغييرات المفاجئة، وغير المتوقعة.

إذاً تتعدد العوامل والأسباب التي توصل مجتمع ما إلى حالة التفكك، وفي كتابه (الانهيار: كيف تختار المجتمعات أن تفشل أو تنجح)، يجمل "جاريد دايموند Jared Diamond " وهو عالم بيولوجي وجغرافي أميركي، خمسة أسباب تتشابك، ويعزز بعضها بعض كعوامل أساسية في انهيار المجتمعات:

العامل الأول يتجلى في الآثار التي يحدثها الإنسان في محيطه البيئي، أي الاستثمار الجائر أو اللاعقلاني لموارد الطبيعة، إلى حد يهدد بزوالها، وبالتالي فإن الناس يدمرون دون وعي الموارد التي يرتكز عليها وجودهم.

العامل الثاني هو التحول المناخي، فقد يصبح المناخ أكثر حرارة أو أكثر برودة، أكثر جفافاً، أو أكثر رطوبة.

العامل الثالث هو العلاقة مع المجتمعات المجاورة الصديقة، التي يُمكن أن تقدم الدعم للمجتمع المعني، وإذا زالت هذه الدعامة الصديقة، يصبح من السهل أن ينهار المجتمع.

العامل الرابع هو طبيعة العلاقة مع المجتمعات العدوة.

العامل الخامس يتعلق بالعوامل السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية التي تجعل المجتمع قادراً بهذا الشكل أو ذاك، على إدراك وضبط مشاكله البيئية، والتحديات الأخرى التي تواجهه.

منذ أن تسلم حافظ الأسد السلطة في سوريا بعد انقلابه العسكري 1970م، اشتغل على إضعاف عوامل استقرار المجتمع، معتقداً أنه بذلك يعزز من إمكانيات سيطرته

في المجتمعات التي تناولها دايموند في أبحاثه، ثمة اختلافات ذات أهمية عن حالة المجتمع السوري، لكن هناك عوامل أخرى بالمقابل تفعل في المجتمع السوري، ولم تكن موجودة في مجتمعاته التي بحثها، من أهمها فقدان الهوية الثقافية المعاصرة المؤطرة إلى حد ما لعلاقات المجتمع، وتسيّد قانون الغلبة والقهر على آليات إنتاج السلطة، واستفحال العنف، وتعميم ثقافته كصيغة أساسية للعلاقة بالآخر، يُضاف إلى كل هذا انتشار الفقر، والفساد، والهجرة الواسعة، كل هذا يدفع للتخوف من أن انهيار مجتمع كهذا، قد تعود به إلى حالة أكثر بدائية.

منذ أن تسلم حافظ الأسد السلطة في سوريا بعد انقلابه العسكري 1970م، اشتغل على إضعاف عوامل استقرار المجتمع، معتقداً أنه بذلك يعزز من إمكانيات سيطرته، وسيطرة أجهزته الأمنية عليه، وهذا ما رسّخ سياسات خاطئة، حفرت عميقا في بنية المجتمع، ثم جاءت سنوات الثورة، لتكشف عن مدى الخراب الذي أسّس له حافظ الأسد.

ليس القانون والدستور والمؤسسات الملحقة بهما، هم وحدهم من يحمي المجتمع، فهناك قيم عامة، وثقافة وأخلاق، وهناك أدوار أخرى للإعلام والمثقفين والمختصين، كلّها تلعب دوراً مهماً في استقرار أي مجتمع، وغالباً ما تتجه الدولة الحديثة إلى تعزيز هذه الثقافة والقيم (بما يتناسب مع القانون والدستور)، وتقويتهما بهدف تقوية المجتمع وزيادة حصانته.

يتذكر السوريون أنه في عقد السبعينات من القرن الماضي، كانت الرشوة بمنزلة الفضيحة الاجتماعية، بالإضافة إلى أن القانون كان يعاقب مرتكبها، لكن خطة حافظ الأسد لإفساد المجتمع، أزاحت القانون من مواجهة الرشوة، وبقيت القيم وحدها في مواجهتها، ومع تعميم الفساد ورعايته من جهات الدولة، خسرت قيم المجتمع معركتها، لتصبح الرشوة والفساد عنصراً أصيلاً، في كل تفاصيل الحياة اليومية للسوريين.

لم يكن رفض المجتمع للرشوة، هو القيمة الوحيدة التي حطمتها سنوات حكم عائلة الأسد، فقد تحطمت قيم اجتماعية كثيرة، كانت تُشكّل روح المجتمع السوري، من العلاقة بالجيران، إلى علاقات الأسرة، والتكافل الاجتماعي، والعلاقات الاقتصادية والثقة و..و..إلخ.

خلال عقود فقط حدث انقلاب كبير في قيم المجتمع السوري، ويمكن لأي سوري تجاوز الخمسين من عمره أن يجري مقارنة واسعة لانقلاب مذهل في قيم المجتمع، أما ما يحدث اليوم فهو فاجع بكل معنى الكلمة، والحوادث التي تحدث يومياً صادمة جداً.

بعيداً عن قيم المجتمع وانهيارها، هناك مؤشرات عديدة على بدء انهيار المجتمع السوري، فهناك انهيار الاقتصاد، ونشوء مجتمعين منفصلين في سوريا، مجتمع أثرياء الحرب، والغنى الفاحش الذي شكل الفساد والحرب مصدره الأساسي، وهناك مجتمع المسحوقين الذين لا يستطيعون تأمين الحد الأدنى من مستلزمات الحياة، وما بينهما لم يتبقَ إلا القليل القليل من طبقة وسطى تلفظ أنفاسها الأخيرة.

من مؤشرات انهيار المجتمع، هو استنزاف اقتصاد البلد، فمن أجل استدامة سيطرة السلطة على موقعها، لم يكن أمامها سوى رهن، وتأجير، وبيع ثروات البلد لميليشيات وقوى خارجية

ما يحدث في سوريا هو بداية فصل تام بين هذين المجتمعين، ليس في مستوى المعيشة فقط، بل في أماكن التسوق، والمدارس والمشافي، ومناطق السكن، والجامعات، وحتى في الثقافة والدين، والأخطر هو في تباين علاقة الدولة ومؤسساتها مع هذين المجتمعين.

أيضاً من مؤشرات انهيار المجتمع، هو استنزاف اقتصاد البلد، فمن أجل استدامة سيطرة السلطة على موقعها، لم يكن أمامها سوى رهن، وتأجير، وبيع ثروات البلد لميليشيات وقوى خارجية مقابل حمايتها، في المقابل لم تجد أعداد كبيرة من الفئات الاجتماعية المسحوقة أمامها أي حل، سوى محاولة المشاركة في نهب الدولة، أو المال العام، أو الاتجاه لنهب الآخرين، ضمن بيئتها المسحوقة في صراع البقاء الذي لا يرحم.

تسبب غياب الوقود في تحول قسم كبير من السوريين إلى استعمال الخشب للتدفئة، الأمر الذي أدّى لاحتطاب جائر، يكاد يقضي على المساحات الصغيرة المتبقية من الغطاء النباتي في سوريا، مع ما يعنيه هذا من ازدياد المساحات المتصحرة في البلاد، والذي ستدفع الأجيال القادمة ثمنه باهظاً، وبينت دراسة لمؤسسة بحثية سورية أن مشكلة التصحر ثاني أكبر مشكلة تواجه التنمية المستدامة في سوريا، بعد مشكلة استنزاف وتلوث الموارد المائية، وقدرت الدراسة  المساحات المتصحرة بنحو 109 آلاف كم مربع بما يعادل نحو 59 بالمائة من مساحة سورية.

في هذا المثال يمكننا أن نرى الصعوبة التي تواجه المجتمع السوري، الذي يقف أمام معادلة صعبة الحل، تتلخص في أن الأشياء التي ستسبب كارثته، هي ذاتها التي تشكل مصدر قوته في معادلة البقاء اليومية.

وهذا ينطبق أيضاً على المياه الجوفية التي تضررت بشكل كبير، ومنذ سنوات طويلة قرع باحثون سوريون جرس الإنذار للتنبيه إلى خطورة ما يحدث، لكن السلطة التي لا ترى في سوريا إلا مصدراً للنهب، وجدت في الأمر مصدراً لزيادة ثروتها، وبدأت تبيع تراخيص الآبار بأسعار مضاعفة.

باختصار، يجد السوريون اليوم أنفسهم أمام حلول فردية، ستكون بالضرورة على حساب آخرين، الأمر الذي يفتح الباب في ظل انهيار الدولة، وغياب القانون، إلى صراع يزداد ضراوة على القليل المتبقي من عوامل البقاء، هذا الصراع الذي تغيب عنه ثقافة الدولة الحديثة، وتحضر فيه عصبيات موغلة في التاريخ قد يكون بداية انهيار لا رجعة فيه.