هل يتحوّل العمل الاجتماعي أثراً سياسياً؟

2021.12.04 | 05:00 دمشق

ayyamsyria.net_2017-01-14_05-35-52.jpg
+A
حجم الخط
-A

قامت المجتمعات البشرية أساساً على مبدأ التكامل، فالإنسان من أكثر الكائنات الحيّة الذي يحتاج رعاية بعد ولادته، وهذا ما فرض على البشر العيش ضمن أسرة ومجموعات أسر، أو ضمن جماعات كبُرت أم صغُرت. وقد أثبتت دراسات حديثة أجريت على بقايا هياكل بشرية، وجود مرضى وأصحاب إعاقات الجسدية خطيرة كانوا قد تلقوا الرعاية في مجتمعاتهم قبل عدّة آلاف من السنين، أي قبل اختراع الكتابة. في ذلك الزمن، كانت المواجهة مع عناصر الطبيعة من كوارث ومخاطر، ومع الحيوانات المفترسة والمجموعات البشرية الأخرى من أهم عناصر صراع البقاء. فأن يتلقى طفلٌ مُقعدٌ مثلاً رعاية تجعله يبقى على قيد الحياة حتى بلوغ سن المراهقة أو الشباب، لهو دليل كبير على التكافل البشري الحقيقي والواضح في ذلك الوقت. هذا يعني أنّ الإنسان اجتماعي ليس فقط بالضرورة، بل هو أيضاً كذلك بالوراثة الجينية، ومعلوم أنّ ثمة من يقول بإمكانية انتقال الصفات الاجتماعية بين البشر جينيّاً حتى.

السياسة ليست رفاهية في الدول الديمقراطية، يمارسها المرءُ على هامش حياته أو بوقت فراغه. السياسة هنا حرفة ومهنة حقيقية كأي مهنة أخرى

على العموم لا يهتم الناسُ بالسياسة، ففي معظم دول العالم نجد الأنماط السلوكية ذاتها وإن اختلفت الدوافع والأسباب. في الدول الديمقراطية يثق معظم الناس بالنظام، فلا يقدمون على امتهان السياسة، وفي الدول الديكتاتورية يثق معظم الناس بوحشية النظام فيبتعدون عن ممارسة السياسة. الناس العاديون يهتمون أكثر بقضايا عيشهم، برفاهيتهم، بمستقبلهم ومستقبل ذرياتهم، لكنهم يبدؤون بالعمل في السياسة عندما تمسّ هذه الأخيرة مصالحهم البسيطة. كلمة عاديين لا تعني غير المتعلمين أو فئات محددة طبقية أو اجتماعية، بل تشمل كل الناس الذين لا يستهويهم العمل السياسي المباشر. ومعلومٌ أنّ السياسة ليست رفاهية في الدول الديمقراطية، يمارسها المرءُ على هامش حياته أو بوقت فراغه. السياسة هنا حرفة ومهنة حقيقية كأي مهنة أخرى، والسياسيون المحترفون يقضون جلّ حياتهم في ميادين السياسة، وتكون هي مصدر رزقهم وعيشهم.

في البلاد المحكومة بأنظمة ديكتاتورية، تكون السياسة فعلَ تحررٍ وطني، لأنّ وصف الاحتلال الداخلي ينطبق في الغالب الأعمّ على هذه الديكتاتوريات، من حيث إنها تتماثل في نتائج حكمها بالاحتلال الأجنبي، أي الإفقار ونهب الثروات وتصديرها لخارج البلاد، إعاقة التنمية والتطور ورهن القرار السيادي للخارج حيث مصدر الشرعية. لذلك يكون من مخاطر ممارسة السياسة ليس سمعة السياسي إن ارتكب خطأ في مسيرته المهنية، أو شابَ عملَه شبهةُ فسادٍ أو تعصّب أو انحرافٍ ما، بل حياتَه ومصيرَه ومصير أسرته أو حتى عائلته الكبرى التي ينتمي إليها. هنا حيث تُعتبر السياسة تحدياً لسلطة النظام لا مشاركة في أدائه ومسيرته، يكون على صاحبها أن يتحمل مخاطر الاعتقال، أو الاغتيال، أو النفي، أو التهجير خارج البلاد. وخارج حدود وطنه لا قيمة للسياسي، فالسياسة ممارسة مجتمعية تلامس مصالح الناس وشؤون حياتهم اليومية، مثلما هي تعبير عن مصالح فئات مختلفة منهم، ومثلما هي أداة لإثبات الحضور والوجود الشخصي. غالباً ما يتعرّض السياسي المنفي خارج حدود وطنه لمخاطر الارتباط بأجندات لا وطنية، وقلّما يستطيع التخلّص من آثارها في المستقبل.

مع ثورة التطوّر التكنولوجي الهائلة في السنوات العشرين الأخيرة، التي سمحت بدورها بخلق وسائل تواصل اجتماعية بديلة عن التلاقي الفيزيائي وجهاً لوجه، بات من السهل ممارسة نوعٍ جديد من السياسة. شيءٌ من هذا أصبح مطلوباً بشدّة بعد ثورات ربيع الشعوب، بدءًا من ربيع طهران عام 2009 وحتى ربيع الشعوب العربية نهايات 2010 بدايات 2011. هنا، وفي سوريا على سبيل المثال، كلّما ازداد إطباق نظام الحكم على الفضاء العام، وازدادت وحشيته بقمع الحراك السياسي المناهض له، تمّ التعويض عن طريق خلق عوالم افتراضية لممارسة السياسة، السياسة بكل معانيها، ليس فقط السياسة كتنافس حزبي أو تمثيل برلماني.

تنطلق المبادرات عادة من الضرورة الملحّة والواقع الضاغط، فكثير من الناس لا يهمهم سوى الخلاص الفردي، لكنّ بعضهم يبقون مسكونين بهواجس الشعور بالمسؤولية العامة

في هذه العوالم الافتراضية، كما فيما تبقى من مجالات العوالم الحقيقية، يكون كل فعلٍ اجتماعي ذا أثر سياسي. ومن أمثلة هذه الأفعال الاجتماعية القبول بقيادات أفرزتها الظروف أو الوقائع المستجدّة. لكن لا يمكن قياس نتائج هذه الأفعال بمقاييس تقليدية، لأنها تخرج بطبيعتها عن ذلك. الأثر التراكمي للسياسة خارج مجالاتها الطبيعية مثله مثل الأثر التراكمي للكبت الاجتماعي أو الثقافي، لا يمكن التنبّؤ بنتائجه بشكل جيد. فقد يتشكّل لدينا، من جرّاء انعدام البيئة الصحية المناسبة لممارسة السياسة، فئة من القادة أو أصحاب التأثير يكون لوجودها خطرٌ حقيقي، ليس فقط على حياة الناس، بل أيضاً على وجود الوطن أو الدولة. هذا التشكّل خارج بيئة صحيّة من الاختيار الحر الواعي والمدرك للسياسيين، وخارج إطارٍ شفاف من الرقابة والمساءلة، يجعل تبوّء غير الأكفياء كارثة وليس مجرّد خطأ في الحسابات أو سوءًا بالتقدير.

هنا يمكن لنا أن نتصور ضرورة وجود مبادرات فردية وأخرى جماعية لمحاولة فهم الواقع ومن ثمّ تغييره. تنطلق المبادرات عادة من الضرورة الملحّة والواقع الضاغط، فكثير من الناس لا يهمهم سوى الخلاص الفردي، لكنّ بعضهم يبقون مسكونين بهواجس الشعور بالمسؤولية العامة وضرورة المشاركة الفاعلة في محيطها. هذا ما يقوله الواقع، الحقيقي كما الافتراضي البديل. لكن ما مصير المبادرات الجريئة أو الخارجة عن المألوف والمعتاد لدى الناس؟ الحقيقة أنّ البشر بالعموم يركنون إلى السائد، وقلّة منهم من يستهويها التغيير خاصّة في أنماط الحياة والسلوكيات، وهذا يتفاوت بكل تأكيدٍ بين مجتمع وآخر. هذا يعني أنّ كثيراً من المبادرات يمكن أن توأد في المهد، لمجرّد عدم فهمها أو لعجز أصحابها عن إيصالها للآخرين بشكل صحيح مفهومٍ لهم، أو لقصور فيها لم يُتح له التعويض والتطوّر، أو لظروف طرحها التي لم تكن مناسبة لذلك. حصل هذا مع تجربة تكادُ تكون فريدة من نوعها في الثورة السورية. دارت أحداث هذه التجربة بين العالمين الافتراضي والواقعي في حوران، وكان اسمها آنذاك المبادرة من أجل سوريا، وفي المركز منها وثيقة العهد. سيكون بحث هذه المبادرة مدار مقال آخر مستقل.

في النهاية، يتحوّل الفعل الاجتماعي أثراً سياسياً بكل الأحوال، فثورات ربيع الشعوب قلبت أنظمة حكمٍ وغيرت وجه المنطقة كلها. لكن يبقى أنّ أشكال هذه الأفعال الاجتماعية وآفاق تطورها وتجلياتها أمراً غير معروف النتائج سلفاً، وهذا ما سيحتاج إلى عميقِ بحثٍ وتمحيص.