ما إن أعلنت الإدارة الأميركية عن رغبتها بالانسحاب من الأراضي السورية، ووقعت وزارة الدفاع (بنتاغون) على القرار رسمياً، حتى انطلق نوع من السباق غير المعلن بين تركيا وإيران وروسيا على ملء الفراغ الأميركي عن طريق السيطرة على أكبر بقعة جغرافية ممكنة.
لطالما شكَّلَ الوجود الأميركي في منطقة شرق الفرات وصولاً إلى مدينة منبج ودعم واشنطن لـ "قوات سوريا الديمقراطية" هاجساً لمحور "أستانا"، إذ ترى تركيا في السياسة الأمريكية تهديداً مباشراً لأمنها القومي، كما عبَّرت موسكو التي تتبنى فكرة مركزية الدولة السورية مراراً عن رفضها التوجهَ الأمريكي لإقامة "كيان انفصالي" شمال شرق سوريا، في حين أن "قوات سوريا الديمقراطية" منعت طهران عدة مرات وبأوامر أمريكية من التوغل في الضفة الشرقية لنهر الفرات، لكن يبدو أن إعلان "إدارة ترمب" المفاجئ عن الانسحاب من المنطقة سيخلط الأوراق من جديد في حال بدأت مرحلة التنفيذ وكان القرار قطعياً.
تنسيق أميركي – تركي.. وتحركات عسكرية لأنقرة
في اليوم التالي لإعلان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عن إنشاء ثلاث آليات حوار مع واشنطن لتنسيق انسحابها من سوريا، وبحث التعاون المشترك في مختلف القضايا، ازدادت وتيرة الاتصالات بين الجانبين والتي كان أهمها اتصال الرئيسين أردوغان و ترمب، الذي تلاه إعلان الأخير عن ثقته بقدرة الجيش التركي على مواجهة تنظيم الدولة، وأيضاً تأكيده أن الانسحاب من الأراضي السورية سيكون "بطيئاً ومنسقاً للغاية"، أما الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" فشدد على ضرورة أن لا يؤدي الانسحاب الأميركي إلى السماح لـ "الجهات الأخرى" باستغلال الفراغ بالسلطة والتمدد.
وأعلن وزير الخارجية التركي اليوم الثلاثاء أنه جرى الاتفاق مع الولايات المتحدة على استكمال تنفيذ بنود خريطة طريق منبج، قبل قيامها بالانسحاب من المنطقة.
وأكدت وزارة الدفاع الأمريكية (بنتاغون) أن اجتماعاً سيعقد الأسبوع الجاري بين مسؤولين عسكريين أتراك وأميركيين رفيعي المستوى، بهدف نقاش الوضع في شمال شرق سوريا، ومسائل تخص الأمن القومي التركي.
وأبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترمب موافقته على زيارة تركيا في الفترة القادمة بعد دعوة تلقاها من نظيره أردوغان، وأشار البيت الأبيض إلى أن اللقاء سيتم بغض النظر عن المواضيع التي ستناقش بين الطرفين.
ويسود الأوساط التركية نوع من التفاؤل الحذر تجاه التطورات في العلاقات الثنائية مع واشنطن، خاصة بعد مغادرة "بريت ماكغورك" المبعوث الأميركي للتحالف الدولي منصبه، والمعروف عنه خلافاته الشديدة مع تركيا حول سوريا، بسبب تبنيه دعم "وحدات الحماية" التي تعتبرها أنقرة الذراع السورية لـ "حزب العمال الكردستاني".
وعلى مدار الأيام الثلاثة الماضية استقدم الجيش التركي تعزيزات كبيرة وغير مسبوقة إلى ريف حلب الشمالي، والشريط الحدودي المقابل لمدينة منبج السورية.
وأفادت مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا بأن رتلين عسكريين يتبعان للقوات التركية الخاصة عبَرا من معبر "حوار كلس" الحدودي باتجاه قاعدة "البلدق" التي أسسها الجيش التركي بريف حلب، كما تم حشد أكثر من 150 دبابة ومدرعة ولواء مدفعية قرب قرية "عون الدادات" شمال غرب منبج، حيث جرى إقامة قاعدة عسكرية جديدة بالمنطقة، وجرى ذلك بالتزامن مع وصول تعزيزات إضافية إلى قضاء "أقجه قلعة" المواجه لمنطقة تل أبيض بريف الرقة.
وتجري طائرات الاستطلاع التركية وبشكل يومي عملية مسح شاملة للشريط الحدودي مع سوريا الممتد من رأس العين بريف الحسكة حتى مدينة جرابلس شمال شرق حلب.
وأكدت المصادر لموقع تلفزيون سوريا أن فصائل: جيش الشرقية - وفرقة الحمزة - واللواء 111 التابعة للجيش الوطني السوري عززوا من مواقعهم في المنطقة الممتدة بين قرى "التوخار" و "بير مغار".
ورجحت المصادر أن يكون اللقاء العسكري التركي – الأميركي المزمع عقده في العاصمة أنقرة خلال هذا الأسبوع حاسماً على صعيد تحديد موعد انطلاق العملية العسكرية التركية المرتقبة شمال شرق الفرات.
روسيا وإيران تعززان مواقعهما
واصلت الميليشيات المرتبطة بإيران لليوم الرابع على التوالي من تكثيف وجودها في المنطقة الممتدة بين البوكمال والميادين بالقرب من الحدود العراقية.
وأفادت مصادر عسكرية لموقع تلفزيون سوريا بأن "لواء الباقر" المدعوم إيرانياً، استقدم يوم أمس الإثنين، ويوم الأحد الماضي مزيداً من التعزيزات العسكرية للمنطقة، في حين يعتقد أنها محاولة للانقضاض على ما تبقى من جيوب تنظيم الدولة قرب هجين والشعفة بريف دير الزور.
وأوكلت روسيا للعقيد "سهيل الحسن" القيادي في قوات النظام القيامَ بمهامَّ عسكرية في محافظة دير الزور، إذ وصل يوم السبت الماضي صباحاً مع مجموعات عسكرية تابعة له تم استقدامها من شمال حماة وشرق إدلب إلى مطار دير الزور العسكري، وتلاه وصول نائب قائد الحرس الجمهوري اللواء "زيد الصالح" إلى شمال شرق سوريا.
وحاولت قوات النظام والميليشيات الإيرانية يوم السبت الماضي ترميم جسر "حلبية وزلبية" الذي يصل بين ضفتي نهر الفرات الشرقية والغربية، تمهيداً للانتقال إلى شرق النهر، لكن طيران التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة رد بقصف الجسر وتدميره بالكامل، بالإضافة إلى استهداف الطيران مجموعةً عسكرية تتبع للحرس الثوري الإيراني متمركزةً جنوب مدينة القورية.
ويعطي قصف الطيران الأميركي للميليشيات الإيرانية مؤشراً على أن واشنطن رغم إعلانها قرار الانسحاب لكنها قد لا ترغب بالسماح لطهران الراغبة بتأمين معبرها البري إلى البحر المتوسط عبر سوريا بملء الفراغ والتمدد في محافظة دير الزور، خاصة أن مصادر خاصة أكدت لموقع تلفزيون سوريا أنه يجري نقاش مقترح يتعلق بحلول قوات تركية وبريطانية في قاعدة التنف بدلاً من الأميركية.
رسائل روسية - تركية
أرسلت موسكو على لسان وزير خارجيتها "سيرجي لافروف" رسائل ضمنية إلى أنقرة، إذ أكد على شرعية الوجود العسكري التركي في إدلب فقط، كونه جاء بعد موافقة "الحكومة السورية" على مذكرة "سوتشي"، مما يحمل معاني ضمنية أن أي توغل للجيش التركي في مناطق أخرى يحتاج إلى التنسيق مع روسيا.
وأكد "غينادي غاتيلوف" مبعوث روسيا إلى الأمم المتحدة أن النشاط العسكري التركي في سوريا ظاهرة مؤقتة ومرتبطة بأمنها القومي.
واستقبلت القاعدة الروسية في "حميميم" بريف اللاذقية قيادات من حزب "العمال الكردستاني" قادمين من جبال قنديل بالعراق، وجرى نقاش الانسحاب الأمريكي ومستقبل "وحدات الحماية"، في رسالة روسية واضحة إلى تركيا بأن موسكو قد تلجأ لاستخدام ورقة دعم هذه الميليشيات ضدها في حال رغبت أنقرة بالانفراد بالتنسيق مع واشنطن بما يخص منطقة شرق الفرات، خاصة أن روسيا دعمت في مطلع عام 2016 هجوماً لـ "وحدات الحماية" على فصائل الجيش الحر المتعاونة مع أنقرة في ريف حلب الشمالي، ومكنتها من دخول مناطق إستراتيجية كمدينة تل رفعت ومطار منغ العسكري قرب الحدود التركية.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد طالب تركيا في وقت سابق بتقديم تنازلات في سوريا دون أن يحدد ماهيتَها، مُبدياً في الوقت نفسه تفهمَه لمصالحها.
ومن جانبه أعلن المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن أنهم يقومون بالتنسيق مع كلٍ من واشنطن وموسكو من أجل العمليات العسكرية في شرق الفرات، دون التطرق إلى ذكر إيران، كما وجَّه تحذيراً إلى قوات النظام قائلاً:" لا أعتقد أن جيش النظام يتجرأ على مهاجمة جنودنا خلال عمليتنا العسكرية، ولو حدث ذلك فسنرد بقوة".
ويبدو أن كلاً من تركيا وفصائل الجيش الوطني السوري المتحالفة معها، وبالجهة الأخرى إيران والميليشيات المدعومة منها هما الأقدر على ملء الفراغ الذي سيخلفه انسحاب القوات الأميركية وتراجع نفوذ "وحدات الحماية"، لكن تبقى مسألة صدق الولايات المتحدة في تنسيقها عملية الانسحاب مع أنقرة، والموقف الروسي من توسيع تركيا لرقعة الأراضي السورية الواقعة تحت نفوذها عاملين حاسمين في تحديد هوية القوة الإقليمية التي ستستفيد أكثر من سحب الجيش الأميركي لقواته من سوريا في حال تحقق ذلك فعلاً، ولم تكن الزوبعة التي أطلقتها واشنطن مجردَ مقدمة لعملية إعادة انتشار تسمح لتركيا تنفيذ عمليات محدودة قرب الحدود دون أن تكون أميركا محرجة أمام حلفائها المحليين، لكن وعلى أية حال فمبجرد الإعلان الأمريكي ظهرت بوادر عديدة تدل على تضارب مصالح محور أستانا الثلاثي الذي تشكل في سوريا منذ عام 2017، مما يفتح باب الاحتمالات على مصراعيه أمام مستقبل التنسيق المشترك لهذا المحور في الملف السوري.