icon
التغطية الحية

هل هناك مبدع غير ثائر؟ ..عن الثّورة والحرية وثمن الإبداع

2022.06.25 | 14:43 دمشق

sjwwwn.jpg
+A
حجم الخط
-A

إن تجربة السّجن اختبار للذّات، اختبار "للهشاشة أو الصّلابة" النّفسية. ويتأرجح النّاس بين هذا وذاك؛ بين من تزيده التجربة قوّة وعبقريّة، وبين من تحطّمه ليخرج مضطرباً نفسيّاً إن لم يكن مجنوناً! ذلك لأنّ هناك "شعرة رقيقة جداً تفصل ما بين العبقريّة والجنون" بحسب الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغور.

ولعل هذه الشّعرة تعبّر عنها عبارة "الدّاخل مفقود والخارج مولود" للفنان المصري الراحل نجاح الموجي في فيلم "أيّام الغضب". فالسّجون تُخرج مبدعين ومجانين... وموتى أيضاً.

"إنّ كميّة الأوكسجين في العالم العربي لا تكفي كاتباً واحداً" يوسف إدريس

ترتبط الحريّة الذاتيّة ارتباطاً وثيقاً بالإبداع الفردي، وهي حريّة داخليّة، لا تمنحها سلطة أو مجتمع، ويتجسّد هذا المعنى بتعريف كَنط للتنوير: "تحرّر الإنسان من الوصاية القائمة بداخله، وهذه الوصاية تعني عجز الإنسان عن الاستفادة من قدرته على الإدراك والفهم دون توجيه من أحد، وسبب هذا العجز هو عدم النّضج الذّاتي، أو نقص في الشّجاعة والإقدام"1].

فالإبداع بمختلف أشكاله، تعبير عن ذات المبدع المتحرّرة من القيود الخارجية، وممارسة هذه الحرية يعني كسراً جزئياً لحاجز الصّمت الذي يعيق ممارسة النّاس لحرياتهم، وكأنّنا أمام تدافع مستمر، فهناك أحرار يمارسون حريتهم الدّاخلية دون الاكتراث بالسلطة المعيقة للإبداع ويتلقون نتيجة ذلك السّجن والتّعذيب وصولاً إلى الموت في كثير من الحالات.

ومن تلك الفوهة الصّغيرة التي يفتحها أولئك المبدعون في جدران الاستبداد، تتدفّق الجماهير، لتزداد الفوّهة اتّساعاً، وتتحفّز الطّاقات المبدعة الكامنة في قلب المجتمع لتخرج إلى النور.

وهذا دأبُ المبدعين عبر التّاريخ بكافة المجالات، ففي العلوم مثلاً نجد "كوبرنيكس" وقد تجرّأ على سلطة الكنيسة وقال إنّ الشّمس هي مركز الكون وليست الأرض كما كانت تعتقد المفاهيم الكنسية، وغاليليو تجرّأ ليقول إنّ الأرض تدور حول محورها مخالفاً الرّأي السّائد آنذاك. والثّورة في منظور السّلطة، نقديّة كانت أو علميّة أو سياسية واجتماعية؛ هي الصّفة المشتركة للمبدعين في كل زمان ومكان، فالعامل المشترك بين محمود درويش ونزار قباني مثلاً هو ثورتهم على السلطة الاجتماعية والسياسية، بل حتى على مستوى الموضوع والشكل في الشعر كانوا ثواراً مبدعين.

هذه طبيعة الحياة؛ دائماً هناك من يتجرأ على كسر المألوف الخاطئ، فيلاقي الإنكار ويتجرع صنوف العذاب المختلفة، إلا أنه ينجح بفتح تلك الثغرة في جدران الاستبداد، والتي ستزداد اتساعاً وستثمر ولو بعد حين.

"الحياة والحرية والفكر ثلاثة أقانيم في ذات واحدة أزليّة لا تزول ولا تضمحل" جبران خليل جبران

السلطة تتأذى من المبدعين الذين يتجرّؤون عليها، فتسعى إلى تقييد الحريات وكمّ الأفواه حتى لا يجرفها طوفان بقية أفراد الشّعب، فتسجن وتعذّب وتقتل. وهذه المظالم تتراكم في وعي الشّعوب حتى تصل إلى مرحلة يصبح التّعايش مع هذه السّلطة محالاً، فيحدث الزلزال الثّوري، وهكذا تتكرّر الثّورات عبر التّاريخ، منذ ثورات العبيد ضدّ نظام روما القديم إلى ثورات الرّبيع العربي.

وتعتبر الثّورات على اختلاف أشكالها من الأدوات التي تستخدمها الشّعوب بدون وعي أو تخطيط لإزالة الظروف البائسة والسّعي لاستبدالها بظروف أفضل، لكن سرعان ما تصبح الظروف الجديدة قديمة، لتأتي الثّورة من جديد بجديد آخر، وهكذا بصيرورة إنسانيّة لا تنتهي إلى لحظة الوصول إلى نظام مثالي تنتفي فيه الأسباب التي تعيق إبداع أفراده.

"حريتي أن أوسّع زنزانتي" محمود درويش

تختلف السّجون باختلاف السّلطة الحاكمة وبحسب النّشاط الاجتماعي، فبعض السّجون السّورية قبل الثّورة كانت تسمح بقراءة الكتب في بعض الأحيان، قبل أن تتحول إلى مسالخ بشرية بعد الثورة، ولعل صور قيصر وإعدامات صيدنايا شاهدة على تلك المسالخ.

المبدع بمجال الأدب والكتابة يشترك مع المجنون والسّجين بصفة الأزمة الداخلية، هذا الاحتقان النّفسي يجعل المبدع يبتكر، وكذلك يدفع السّجين إلى الإبداع أو دخول دوامة الاضطرابات النّفسية التي قد تصل به للجنون

أيضاً؛ يختلف تأثير السجن على المعتقلين؛ فقسم يخرج منكسر الرّوح لا يستطيع التأقلم مع الحياة خارج القضبان، وقسم يخرج إنساناً جديداً يتفجّر طاقة وحيويّة وذاكرة حيّة لا تموت، فيتحدّث السّاعات الطوال عن تفاصيل السّجن وآلامه، ويخلد تلك الذّكريات بالكتابة أو بالأحاديث اليوميّة، لتصبح تلك الأحاديث سبباً من أسباب وجوده. وهناك قسم أخر يخرج وقد فقد عقله أو توازنه النّفسي، وهذا ما نلاحظه بكثافة عندما تكون الأنظمة بحالة تهديد وجودي حقيقي، كحالة الثّورة في سوريا.

"يستحيل على سجين المسافات الطّويلة أن يخرج بتمامه من السّجن، أو أن يخرج السّجن بتأثيراته منه" محمد برّو

الذين تصدوا لمهمة الكتابة بهدف التعبير عن تجربتهم في المعتقلات، سطروا لنا كتابات خالدة عن أدب السجون، كرواية "القوقعة" لـ مصطفى خليفة ورواية "أجنحة في الزنزانة" لـ مفيد نجم ورواية "ماذا وراء هذه الجدران" لـ راتب شعبو، ورواية محمد برّو "ناجٍ من المقصلة".

وهناك روايات كتبت عن السّجون، ممن لم يسجن كرواية "لحظة العشق الأخيرة" لـ ضاهر عيطة الذي سجن بعد كتابة روايته، ولم يكتب عن تجربته في السجن لأن "اللغة تخونه للكتابة عما شاهده هناك"[2]. وكذلك رواية "تلك العتمة الباهرة" للروائي المغربي طاهر بن جلون حيث يهدي الكاتب روايته لعزيز أحد معتقلي سجن "تزمامارت" في المغرب، وبطل الأحداث الحقيقي، الذي استلهم أحداث الرواية من شهادته.

وبالعموم فإن أدب السجون هو أدب توثيقي لمررات السجن وناتج عن شهادات حية، يغلب عليه الطابع التقريري، الذاتي، وبحسب النقاد فقد سيطرت عليه ثنائية الجلاد والضحية، وغالباً يفتقد للحفر عميقا في الذات على المستوى النّفسي والوجودي للمعتقل.

ومن الملاحظ أنّ أدب سجون الأسد يوثق أحداثا مأساويّة، قد يصنفها نقاد المجتمعات المتمدنة على أنّه أدب خيالي Fiction؛ لأن كتّاب أدب السّجون يتمتعون ببذخ يسمح لهم برسم شخصيات خيالية، كما جرى مع الروائي الإسباني "دي ثيربانتس" فقد كتب روايته "دون كيخوته" في السّجن، فعلى الرّغم من أنّ هذا العمل "وُلد في السّجن ووجد نفسه محبوساً في زنزانة، إلا أنّ خيال كاتبه حراً يتجول مع فارسه المخبول في طرق إسبانيا المغبرّة".

وحتى الدّراسات العلمية عن السّجون نجدها مخيّبة للآمال، فأثناء البحث عن دراسات علميّة عن علاقة السّجون بالجنون وقعت عيناي على دراسة بعنوان "الجنون في غياهب السّجون" للطبيب النّفسي الإنكليزي تيري كوبرز، وعند قراءة الفصل الثّاني الذي جاء بعنوان لماذا يُصاب الكثير من السّجناء باضطرابات عقليّة؟  وجدته يخلص إلى أن الأسباب تعود إلى صدمات السّجناء النّفسيّة في الطفولة، والازدحام الشّديد. وهذه الأسباب الناتجة عن مشاهداته أثناء زيارته بعض السّجون (الأميركية)؛ قد تبدو لمعتقل في سجون الأسد مثيرة للضّحك، كإسهابه أثناء الحديث عن مشكلة الصّراصير في بعض السجون!

"مثلما أن المرض يحيط بالصّحة من كل الجهات فإن الجنون يحيط بالعقل من كل الجهات" لودفيغ فتغنشتاين

سألوا الكاتب الفرنسي آندريه مورو: "هل جميع الرّوائيين مجانين أو عصابيون؟ فأجاب: "لا، الأصح أن نقول إنهم كانوا سيصيرون عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين.. فالعصاب، هو  الذي يصنع الفنّان، والفن هو الذي يشفيه"[3].

نتلمّس من هذا الجواب العبقري حلولاً لهذه الجدليّة بين الإبداع والسّجن والجنون، فلولا المرض النّفسي والعزلة وعدم الانسجام مع المحيط، لمّا كرّس أشخاص مثل دوستويفسكي ونيتشه حياتهم للكتابة، السجن أيضاً يمنح المعتقل الوقت الكافي للكتابة والقراءة والتّأمل، كمحاولة لسدّ بؤرة الوقت الطويل الذي سيؤدي للجنون إذا لم يجد طريقة للتعامل معه.

فالمبدع بمجال الأدب والكتابة يشترك مع المجنون والسّجين بصفة الأزمة الداخلية، هذا الاحتقان النّفسي يجعل المبدع يبتكر، وكذلك يدفع السّجين إلى الإبداع أو دخول دوامة الاضطرابات النّفسية التي قد تصل به للجنون.

فالإبداع يولد من رحم الألم، وهل هناك ألم أشد من سجون الطغاة حيث يذوق المرء أصنافاً من العذاب لا تدركها الدّراسات في الثّقافات الأخرى ويصنفها بعض دارسو الأدب مجرد فنتازيا لا صلة لها بالواقع؟