هل كان ذلك يستحق هذه القسوة؟

2020.12.23 | 23:49 دمشق

2020-10-06t081533z_1995204224_rc2wcj9stewz_rtrmadp_3_mideast-syria-germany-chemicalweapons.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا شيء يمكنه أن يكون أكثر قسوة من شعورك بأنك قد تفقد شخصا عزيزا عليك، وبمثابة قطعة من روحك وأنت بعيد وعاجز عن فعل شيء له، بل ما هو أشد مدعاة لقسوة وخوف كهذا أن تفقده أو يفقدك وأنت وهو لم تتواصلا منذ ما يقارب عقد من الزمن، ثمة قطيعة كاملة حدثت بينكما، إلى حد أن يتصرف كل منكما كما لو كان غريبا عن الآخر، مع أن لكما نفس الدم ونفس الملامح ونفس العناصر البيولوجية، ما يختلف فقط هو خيار كل منكما في لحظة استثنائية في تاريخ سوريا المعاصر، إذ انحاز كل منكما إلى ما يراه الصواب والحق تلك اللحظة، مع أنه خلال السنوات اللاحقة التي تلت تلك اللحظة الاستثنائية حدثت متغيرات هائلة، وافتراقات مفصلية عديدة وخطيرة، وما كان وطنا اختلفتما على مستقبله ذات مرة، أصبح فتاتا، أرضا محروقة، مقبرة متنقلة، مختبرا لتجارب الأسلحة واستعراض القوة للدول الاستعمارية الكبيرة وطموحات زعمائها، أصبح ملجأً لمرتزقة الأرض، بؤرة للفساد وتجارة الدم والحرب، أطلالا مدمرة، مكانا لا يصلح للحياة الآدمية ولا لأي نوع من الحياة، حرائق تأكل الأخضر واليابس، ميليشيات ومرتزقة وعصابات وشبيحة وسلاح ومخدرات ودعارة وفقر وجوع وبرد وتشرد وتنمر، ونمو طبقات طفيلية أثرت بشكل فاحش أثناء الحرب، واصبحت تتصرف كما لو أن ما تبقى مما كان يسمى وطنا ملك لها، صراعات بين حاكمي البلد ومالكي ثرواته، صراعات بين الدول الوصية عليه، سماؤه مستباحة لكل أنواع الطائرات وجنسياتها، وأرضه مستباحة لكل أنواع المرتزقة والمجرمين، سجون ومعتقلات مازالت ممتلئة بأجساد السوريين الذين لا يعلم سوى الله ما يعانونه من العذاب، قهر ووضع الملح على الجراح المفتوحة والتي لا يبدو أنها سوف تندمل يوما.

أما أحلام الثورة التي انطلقت قبل ما يقارب العقد من الزمن فأصبحت مجرد حسرة ومرارة وخيبة أمل قضت على كثير من أصحابها جسديا ونفسيا ممن بقوا على قيد الحياة داخل البلد أو خارجها، وكذلك أحلام الاستقرار الذي كان يصبوا إليه من رفضوا فكرة الثورة تماما، ومن آثروا الصمت خوفا، ممن لا مصلحة تربطهم بالنظام سوى بعض أوهام عن مظلومية تاريخية شعروا أنهم تخلصوا منها مع نظام الأسد، وأنهم أصبحوا مواطني درجة أولى في وطن لا يمنح مواطنته سوى للفاسدين والدائرين في فلك السلطة وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة التي تتشارك بها دائرة النظام، وسوى لمريدي المؤسسات الدينية المتحالفة منذ الأزل مع أي سلطة حاكمة.

أما أحلام الثورة التي انطلقت قبل ما يقارب العقد من الزمن فأصبحت مجرد حسرة ومرارة وخيبة أمل قضت على كثير من أصحابها جسديا ونفسيا

يحدثني صديق مقرب عن خوفه من فقدان أخيه الذي لم يسمع صوته منذ أكثر من تسعة أعوام، صديقي اختار الوقوف مع الثورة منذ بدايتها، وخرج من سوريا مع من خرجوا خوفا من الاعتقال وربما من الموت، بينما اختار أخوه الوقوف في صف النظام وبقي في سوريا رافضا مغادرتها، (كان هذا بداية الانقسام الخطير في المجتمع السوري الذي بدأ أولا في العائلات لينتقل لاحقا إلى باقي المكونات من مدن وأديان ومذاهب وعشائر.. الخ)، يقول لي صديقي إن أخاه مصاب حاليا بالكورونا، ووضعه يعتبر خطيرا، نظرا لوضع سوريا مع فيروس كورونا، ليس فقط  لعدم اهتمام النظام بإعلان حالة الطوارئ الطبية، رغم أن سوريا تعيش حالة طوارئ أمنية منذ الأزل، وإنما أيضا لأن سوريا خلال السنوات الماضية فقدت غالبية كوادرها الطبية، ليأتي فايروس كورونا ويتابع حصد الأرواح عبر استهدافه المزيد من الكوادر الطبية الذين كانوا أول ضحايا هذا الفايروس، وأيضا بسبب عدم توفر أي نوع من أنواع الرعاية الصحية الآدمية في المشافي السورية سواء الحكومية أو الخاصة، حتى بات يقال إن مصابي كورونا يموتون ما إن يصلون المشافي بسبب الإهمال، وبسبب عدم الالتزام بالقواعد الصحية المطلوبة، ولكن في منطق آخر تبدو الإصابة بكورونا بالنسبة لسوريي الداخل أشبه بالمزحة أمام معاناتهم الطويلة مع كل شيء، بدءا من تأمين رغيف الخبز( أدنى متطابات البقاء على قيد الحياة، وحتى البحث عن الشمع لتخفيف حدة الظلام التي يسببها الانقطاع اليومي الطويل للكهرباء، طبعا الحديث عن فقدان وسائل التدفئة والأدوية وانقطاع المواد الأساسية أصبح من النوافل ولا معنى لتكراره).

حديثي مع صديقي إياه عن حالته مع شقيقه تلت مناقشة بيننا عن مصطلح ( العدالة التصالحية) الذي استخدمه المبعوث الأممي الى سوريا غير بيدرسون أمام مجلس الأمن قبل مدة، وما أثاره المصطلح من سخرية وغضب لدى السوريين، سواء المعارضون أو الموالون بشدة لنظام الأسد، فالموالون، الذين يعتقدون أنهم انتصروا على (أعدائهم) من باقي السوريين، لا يريدون التصالح، ومازالوا يطالبون نظامهم بالضرب بيد من حديد ونار وموت، ومازالوا يعتبرون كل من طالب بالحرية خائنا ويجب تجريده من جنسيته فما بالك بمصالحته ومسامحته، أما المعارضون فيرون أن الانتقال من مصطلح عدالة انتقالية، بما فيه من تساهل، إلى عدالة تصالحية ليس إلا مسعى دولي للتطبيع مع نظام الأسد، وإنقاذه من المحاسبة على ما ارتكبه من جرائم بحق السوريين، وتفريط بحق الضحايا والشهداء والمعتقلين وعائلاتهم واللاجئين والمهجرين والمشردين والمعاقين والأطفال المحرومين من طفولتهم، وتفريط بحق سوريا كبلد استقدم نظام الأسد إليه كل أنواع الاحتلالات، وكمجتمع لم يترك هذا النظام أية وسيلة لتفتيته إلا واستخدمها، فماهو معنى العدالة التصالحية التي طرحها بيدرسون، وما هو سبب طرحها حاليا؟

قال لي صديقي: تخيلي أنني أنا وشقيقي نرفض هذ المصطلح وكل من خندقه،! شقيقي الذي يمر بأصعب وضع صحي حاليا، وهو يعرف جيدا أنه إذا ما تطورت حالته نحو الأسوأ فلن ينفعه تأييده للنظام بشيء، ليس فقط لأن الطب مازال عاجزا أمام خطر هذا الفيروس، بل لأن النظام السوري فرغ سوريا من أهم كوادرها الطبية، سواء بالقتل أو بالاعتقال أو بالتهجير، ولا يستطيع تأمين أي نوع من أنواع الحماية لما تبقى من الجسم الطبي كي يتمكن من العناية والاهتمام بمصابي كورونا دون خوف من العدوى المباشرة، والتي غالبا ما تكون قاتلة للأطباء بسبب جرعة الفايروس الكبيرة التي يتلقونها من المرضى.

أعترف أنني شعرت ليس فقط بالقهر بعد الحديث مع صديقي، بل أيضا بالخجل منا نحن السوريين، كيف وصلنا إلى حد أن يفترق الإخوة على هذا النحو القاسي بفعل السياسة؟ وأفكر بباقي الشعوب الربيع العربي التي انقسمت أيضا بين مؤيد للثورات ومعارض لها، ومع ذلك لم يحصل أن تبرأ أخ من أخيه، أو تجاهله في حالة مرض شديد أو محنة ألمت به، لم يحصل هذا إلا في سوريا، وكأن السوريون لشدة وطول مدة القهر الذي عانوه خلال عقود، أسقطوا كل قسوتهم وغضبهم على أنفسهم وعلى أقرب البشر إليهم، ما معنى أن يتطلق زوجان بسبب الموقف من النظام؟ وما معنى أن يتبرأ أب من ابنه أو ابنته بسبب الموقف من النظام، ما معنى كل هذه القسوة التي أصبحت صفة من صفاتنا نحن السوريين؟ قسوة ومكابرة وتشفي وقطيعة، والمفارقة أن الجميع مهزمون، معارضة وموالاة وبلد، وحده الخراب هو المنتصر، الخراب والموت وتجار الحرب ومافيات الاقتصاد والمال والسلاح والدين والطوائف.