هل قطع مشروع رياض حجاب الطريق على ”أوسلو“ السوري؟

2022.02.10 | 10:49 دمشق

whatsapp_image_2022-02-05_at_11.14.30_am-logo.jpeg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن المشاركون في ندوة ”سورية إلى أين؟“ التي رعاها رئيس الوزراء السوري المنشق رياض حجاب في العاصمة القطرية الدوحة خلال الأيام الماضية ينتظرون أن يعلن الرجل خرقاً غير متوقع في المشهد السوري الراكد، لكنهم قبلوا دعوته المحمولة على أكتاف جملة من المراكز البحثية مثل مركز جسور وحرمون وعمران وغيره والتي عنيت بتنظيم ما يشبه الورشة الفكرية حيث تليت أوراق بحثية وتم التعقيب عليها ومناقشتها من قبل الجميع. وكان الضيوف القادمون من المهاجر والمنافي السورية يحملون معهم تصورات ورؤى حول إصلاح مؤسسات المعارضة وحول العلاقات الدولية وحول عدد غير قليل من القضايا.

سؤال واحد كان يشغل ذهني شخصياً طوال الوقت، قبل الندوة بشهور وآناءَها؛ هل هناك أوسلو سوري يجري طبخه على نار هادئة في مكان ما؟ باعتبار أن عناصر ذلك الاتفاق الذي أُريدَ له أن يُبرَم خارج قرارات مجلس الأمن الخاصة بالقضية الفلسطينية، قد تكاملت هي الأخرى في القضية السورية، حتى إن مهندس أوسلو، كما هو معلوم، غير بيدرسون، هو ذاته اليوم المسؤول عن الملف السوري مبعوثاً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة، إضافة إلى وجود أدوات تعمل بالإيقاع ذاته، مع حصار مطبق على السوريين من كل الجهات توّجته خطة طرحها المهندس المحنّك إياه سمّاها ”خطوة بخطوة“ معلناً أن أحداً من اللاعبين الكبار لم يعد يرغب في تغيير النظام بدمشق وإنما فقط تعديل سلوكه.

صحيح أن قطار التطبيع مع الأسد متعثر، لكنه ماضٍ دون ممانعة جادة، تقول الولايات المتحدة إنها لن تدعم ذلك التطبيع، لكنها لا تفعل شيئاً لوقفه. والأوضاع آيلة إلى مزيد من التدهور على ضفة المعارضة التي أصيبت مؤسساتها بالشلل شبه التام، مؤسسات لا تمويل يُذكر لها ولا آفاق دولية مفتوحة أمامها، سوى أنها باتت أشبه بمزارات يطوف عليها السفراء لإعداد تقاريرهم آخر النهار ورفعها للإدارات العليا التي ما تزال تنتظر قبل تخليص السوريين من آلامهم ساعةً لايعلم مُرساها إلا الله.

حافظ حجاب على مواقفه منذ انشقاقه وحتى اللحظة، دون أن ينجرف خلف أزمة حادة عصفت بالمنطقة العربية مثلتها القطيعة الخليجية الخليجية والتي دفع كثيرون ثمناً باهظاً لها وللاستقطاب الحاد الذي خلّفته. تمكّن من عبور الممرّ الصعب، وتزامناً معه كان قد استجاب لضغوط دولية بالابتعاد عن المشهد مع فريقه ممن عرفوا بالصقور، لصالح الحمائم في أوساط المعارضة السورية والذين قادوا المرحلة الماضية من المفاوضات إلى حيث وصلت من طريق مسدودة.

في مشروعه الحالي، يطرح حجاب عجلة من التأثير مختلفة عمّا شهده الملف السوري، على الأقل في المشرق، ففي أوروبا والولايات المتحدة كثيراً ما رعت مراكز الأبحاث ورش التفكير السياسي المتصلة بالشأن السوري، لكنها كانت في البعيد، أما على تخوم سوريا فكان الوضع مختلفاً وساد بدلاً من التفكير صوت المعارضة، والصراعات السياسية والشعارات عوضاً عن التحليل، باستثناء المرحلة المبكرة من الربيع العربي، حين شهدت الدوحة ذاتها لقاءات سياسية رعتها الحالة الفكرية، لكنها أخفقت في الوصول إلى مبتغاها، كان الوقت ما يزال مبكراً، وكانت الثمار لم تنضج بعد والرؤوس حامية ورفضُ الآخر كان أسرع الخيارات وأهونها  على السوريين أنفسهم. لكن اليوم، تغيّرت الحال وتغيّرت معها أمزجة هؤلاء جميعاً.

الهدف الثاني من ندوة ”سورية إلى أين؟“ إعادة ترتيب أوراق المعارضة السورية التي تبعثرت على المستوى الدولي، وأغلقت في وجهها الأبواب، وتمزقت علاقاتها مع محيطها

الهدف الأول الذي تطلعت إليه ندوة ”سورية إلى أين؟“ كان القول ”نحن هنا“، فلا تختزلونا بالصورة النمطية التي بدت عليها الثورة والمعارضة السورية من ترهّل وفوضى، بل يمكن للسوريين أن يقدّموا مشاريعهم وتصوراتهم عن المستقبل بغير النبرة التي اعتدتم عليها خلال الأعوام الماضية. فلتصغوا إليهم. دعونا نرى هل فقد هؤلاء بالفعل إصرارهم على التغيير والتحول الديمقراطي الذي بذلت كل أسرة من أسرهم من أجله الغالي والنفيس، وفنيت أملاكهم وتم تهجيرهم إلى أصقاع الأرض، وخسروا خيرة شبابهم في المعتقلات والسجون والحروب؟ هل هم مستعدون حقاً للتطبيع مع الأسد وطي الصفحة وكأن شيئاً لم يكن؟ وهل يعرفون بالضبط في أي إحداثيات هم الآن ومعهم قضيتهم التي تركها العالم ورقة على طاولة قمار يقايض بها ملفات أخرى هنا أو هناك، من أوكرانيا إلى اليمن، ومن النووي الإيراني إلى عقدة تركيا والناتو، ومن الحرب على الإرهاب إلى ما تبقى من الصراع العربي الإسرائيلي؟

الهدف الثاني من ندوة ”سورية إلى أين؟“ إعادة ترتيب أوراق المعارضة السورية التي تبعثرت على المستوى الدولي، وأغلقت في وجهها الأبواب، وتمزقت علاقاتها مع محيطها، ومن أجل محاولة الاستفادة من أجواء المصالحة العربية التي لم تتوقف منذ إعلان العلا من الخليج إلى مصر، غير أن غيمة المصالحة السخية تلك لم تمطر فوق السوريين حتى الآن، في حين أصبحت حماس، وهي التي كان حاكمت السلطة في مصر جماعة الإخوان المسلمين بتهمة التخابر معها، ضيفاً مزمناً على القاهرة، تعقد فيها مؤتمراتها وتتخذها حليفاً في الهدنة الهشة بينها وبين الإسرائيليين، ومصر رحّبت بهذا، فهي الأخرى بحاجة للنفس خارج قضاياها المحلية والعودة إلى دورها الإقليمي كأكبر دولة عربية ذات ثقل وتأثير.

لم يبق للسوريين مع الإحجام السعودي عن مواصلة دعم هيئة التفاوض أي دولة عربية قادرة على دعم ثورتهم، فحتى الأردن ركض نحو التطبيع مع الأسد رغم ما يجلبه عليه ذلك من تهديد إيراني كان مليكه هو أول من حذّر من نشوء هلاله الشيعي ذات يوم. وقطر كانت منشغلة بترتيب علاقاتها مع أشقائها القريبين، لبنان في المهب الإيراني، والمغرب العربي كله تقريباً يعد الأيام والليالي لإعادة نظام الأسد إلى كرسيه في الجامعة العربية. وعلى مستوى دول الإقليم لم يعد هناك سوى تركيا التي تستضيف الائتلاف السوري المعارض والحكومة المؤقتة ومعهما بضعة ملايين لاجئ سوري في ظروف صعبة ووسط تهديدات قد تلعب بها رياح التقلبات الانتخابية في أي لحظة.

كان يمكن لاتفاق أوسلو الذي يرتبه بيدرسون أن يمرّ، وأن يجد له درباً ممهدة في ما لو كان السوريون في حالة من الانكفاء واليأس تسمح بذلك، حالة تشبه الحالة الفلسطينية التي سبقت ولادة أوسلو، عزلة تامة لمنظمة التحرير الفلسطينية، بوصلة ضالة تجعل القيادة تتخذ قرارات أبعد ما تكون عن الحكمة، مثل تأييد غزو الكويت. لكن الوضع السوري يختلف عن نظيره الفلسطيني في مفاصل مهمة، لكنها غير محسومة بعد، فالثورة الفلسطينية تمتعت بقيادة قادرة على المناورة في كل وقت، في حين يعاني السوريون من غياب القيادة المعترف بها شعبياً، وإن كان حجاب ما يزال يتوافر على قبول كبير بين السوريين. كما حظيت الثورة الفلسطينية بمظلة جامعة مثلتها منظمة التحرير، بينما عجز الائتلاف عن القيام بذلك مع السوريين. الحرب الباردة ساعدت الفلسطينيين على استثمار الاستقطاب الدولي، في حين وجد السوريون أنفسهم في ظل تفاهم أميركي روسي عجز التاريخ عن الإتيان بمثيله إلا في الحالة السورية.

حتى لغة بيدرسون في إحاطاته أمام مجلس الأمن منذ شتاء العام 2020، لم تخل من إشارات تذكّر بأوسلو، ومن ذلك استخدامه لمصطلح ”العدالة التصالحية“ الذي استوقف السوريين حينئذ. على أن كل تلك الفوارق التي كانت بالنسبة لمهندس أوسلو ”عقبات“ في الحالة الفلسطينية، هي اليوم غير موجودة في الحالة السورية، فلماذا لا نبتكر إذاً أوسلو سورياً ينهي الأزمة ونسجّل نصرين تاريخيين على مشكلتين عالميتين مستعصيتين؟ حتى وإن كانت نتائج أوسلو الأولى تمزيق القضية الفلسطينية إلى غزة والضفة ومن ثم حماس والسلطة، ولماذا لا يكون إيقاف الحرب وفرض مذكرة تفاهم محشوة بالخرائط تلو الخرائط هو الهدف بدلاً من التفكير في مستقبل سوريا بعد مثل اتفاق كهذا؟ 

وإذا كانت توصيات ندوة حجاب قد بدت في نظر بعضهم أقل مما يطمحون إليه، فإن هذا الحد الأدنى هو ما يحتاج إليه السوريون اليوم، فالمعروض عليهم أقل منه بكثير، وكان لافتاً أن سبب التحول في هيئة المفاوضات قبل أعوام، وإبعاد رئيسها وفريقه عنها، هو اعتراضه على دخول منصات موسكو والقاهرة بما تمثله وتحمله من أفكار وتوجهات الدول التي ترعاها، لم يعد قائماً اليوم، فها هي المنصتان تشاركان في ندوة الدوحة وتوافقان على المبادئ ذاتها التي رفضتها طويلا ورفضتها العاصمتان الداعمتان لهما من قبل، وهو تحوّل نوعي لم يتوقف عنده كثير من قراء ما جرى في الدوحة.

الهدف الثالث والأخير للمشروع هو "إطلاق آلية" تقوم بالتأثير في المحيط من تلقاء ذاتها، محدثة التغيير المطلوب، الحد الأدنى منه أيضاً يكفي في هذه المرحلة، والأهم من ذلك أنه غير مرتبط بشخص حجاب نفسه، فقد كان هو الحركة الأولى التي دفعت بالموجة. بوسعه مواصلتها ورعايتها وربما قيادتها بالطبع، إلا أنها انطلقت وانتهى الأمر، وبدأت أولى تأثيراتها بالتحقق من خلال المناخ العام الذي أشاعته سورياً وعربياً وإقليمياً ودولياً. رغم أن رئيس الوزراء الذي لم ينس له السوريون موقفه حين غادر منصبه في أكبر انشقاق عن نظام الأسد، لم يطرح أي جسم بديل عن المؤسسات القائمة التي بات عمرها سنوات ولديها اليوم من الإرث، أبيضه وأسوده، ما يكفي كي تنهض في أي وقت مجددة ذاتها بشخوص جدد وبأدوات جديدة. 

ولا أحد، ممن هم وراء السوريين، تبعاً لذلك يرغب بخسارة أوراق قوة على رقعة الشطرنج الممتدة فوق سورية وحولها، جامعة العديد من الملفات الحارة، صراعات النفوذ الامبراطوري والصعود القومي المحيط والقوى الانفصالية والحركات الدينية وخطوط الغاز وحروب المياه وسواها. وفي وضع كهذا ليس الوقت وقت مناكفات سياسية قصيرة النظر بين السوريين، وتنافساً على الحضور والغياب ولعبة الكراسي والكواليس.

للمرة الأولى يمكن للملف السوري أن يكون عاملاً مؤثراً لإعادة ترتيب العلاقات في المنطقة، تقريب الحلفاء والخصوم إلى نقاط متوسطة التباعد تحفظ مصالح الجميع، بعد أن انهارت قاعدة أن لا مصلحة لأحد في تغيير أي شيء في المشهد السوري الجامد الدامي.