هل فات أوان إنقاذ سوريا؟

2019.06.02 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يكن السوريون الذين نزلوا إلى الشوارع في آذار 2011، يبحثون عن أكثر من عيش كريم، إنسانيتهم فيه محترمة.

 بهذه البساطة كلها، كان الأمر هكذا، بعيداً من تلك الحبكات البوليسية، ومن سفسطة المؤامرات الدولية، ومن مصطلحات منظري سياسة الإعاشة. لقد كان الأمر هكذا، لقد كان حلماً بسيطاً، ولقد كان حلماً أوشك أن يكون، بعد تاريخ الاستبداد المديد، وبعد عقود امتهان الكرامات ونهب الخيرات. لقد كان حلم شعب، كاد أن يتمثل حقه في الحياة، وكاد أن يحقق هذا الحق، بعد أن تلمّظ بطعم تحرر الأجساد، وبعد أن تلمّس المعنى في انتعاش الحناجر بأصواتها بعد اليباس.

وهكذا، وبالبساطة كلها: لم يكن لدى من تحكّموا بسوريا طوال نصف قرن سوى القمع، القمع العاري والغشيم والمستكلب؛ لأن من تحكموا بسوريا عقوداً، لا تحسب بالسنوات ولا بالأيام، فقراء في النظر والرأي، وفقراء في الخيال والابتكار، وعقيمون عقماً يخافون فيه من وعد حيوية وحياة، وجشعون جشعاً لا يشبع ولا يرتوي؛ ولذلك تضبعنوا في السكون الكثيف، فاستنكروا الأصوات اللطيفة التي رفرفت في الفضاء، واستهجنوا فرح الأجساد في الساحات وفي الحواري والأزقة، ولأنهم لا يعرفون أن أحداً له الحق في أي حق؛ لأن سوريا مزرعتهم وميدان فروسيتهم وكتاب حكمتهم. فعن أي وطن يهرف المهرفون!! وعن أي حرية يتكلم المملوكون!! هذه سوريتهم التي هي مزرعتهم وإرثهم، ولهم فيها مطلق الحق والحرية لإدارتها كما يشتهون.

وهكذا بين حق الحياة ووعدها الذي ظل افتراضاً، وهوس السلطة الذي دمر سوريا، واستباحها؛ فصارت مباحة لكل طماع وأزعر ذميم، إلى أن باتت تنزلق في وحل موت تتوالى فصوله على مرأى من هذا العالم كله، هذا العالم الذي انحط حتى وصل إلى زعامة ترمب وبوتين.

لأن الثورة بالنسبة إلى بعض السوريين: وليمة، وعلاقات عامة، ومناخ استثمار... وليست كسراً، وتحريراً، وتكثيراً، وتوسيعاً، وشبعاً، وارتواء، وتفرداً، وأخلاقاً..

لماذا وصلنا إلى هنا...؟

لأن بعض أبناء سوريا: تجار شنطة.

ولماذا وصلنا إلى هنا؟

لأن المثقف قد ضاع بين هوتين. ولأن المتثاقف مشغول بعرض مفاتنه في سوق الخردة.

ولماذا وصلنا إلى هنا؟

لأن أحزابنا مازالت تجتر وتلوك ما كان مفصوماً في زمنه، وما بقي منه الآن سوى العفن.

ولماذا وصلنا إلى هنا؟

لأن الثورة بالنسبة إلى بعض السوريين: وليمة، وعلاقات عامة، ومناخ استثمار... وليست كسراً، وتحريراً، وتكثيراً، وتوسيعاً، وشبعاً، وارتواء، وتفرداً، وأخلاقاً...

ومع ذلك، لماذا عجزنا عن إنقاذ وطننا؟ ولماذا عجزنا عن إنقاذ مستقبله ومستقبل أجياله؟ ولماذا لم نستطع وقف هذا الخراب؟

ولماذا يجب أن يكون لهذا القول معنى، أي معنى: إن خمسة عقود كاملة من إضعاف سوريا المتعمد، ومن تفخيخ بنيتها بكل ما من شأنه أن يجعلها بالغة الهشاشة، ومن قبلها تاريخ طويل من التعثر ومن الاحتلالات ومن الفوضى هو ما أوصلنا إلى هنا.

وهل يفيد الآن الاستغراق في نبش التاريخ، وفي كيل الاتهامات، وفي إجراء المحاكمات، وفي البحث عن وهم الخلاص الفردي أو الفئوي؟

على كل حال، مهما تكن القراءات التي تفسر ما وصلنا إليه، فإن الحقيقة هي الحقيقة، التي لا تتحول إلى زيف حتى في الشطح والانخطاف، وإن الواقع هو الواقع، الذي لا يصير إلى سراب حتى في المنام. ولهذا، لابد أن نقول: إن سوريا تحتضر، وفي حضرة هذا الاحتضار الفاجع لبلد هو من أكثر بلدان المنطقة امتلاكاً لمقومات نهوضه وتطوره، لابد أن نستعيد السؤال: هل يمكن إنقاذ سوريا، وكيف؟

كل السوريين المعنيين ينتظرون الآخرين؛ ليقرروا مصيرهم الذي هو مصير سوريا، وهم في الوقت نفسه يدركون: أن الآخرين لن ينقذوا إلا مصالحهم فيها.

فأي معادلة هذه؟

لا يختلف معظم السوريين في رؤيتهم لسوريا كثيراً؛ لأن سوريا عند معظمهم: حق مسلوب، وحق تدعيه كل الأطراف مستندة في ذلك إلى افتراضات، أو إلى حقائق شاخت، وهي أيضاً حق الانتقام ممن سلبوا هذا الحق.

ما بين الحق المسلوب، ونهر الدم، والبحث عن فرصة للبقاء من أجل انتقام قادم، نسي معظم السوريين أن ينتبهوا إلى سوريا التي تحتضر، وأن ينتبهوا إلى من قدموا من كل الجهات لنهبها. هكذا، وبينما تحترق سوريا من أقصاها إلى أقصاها يواصل السوريون إغماض أعينهم عن حقيقة أنهم وبلادهم ذاهبون إلى الفاجعة الكبرى: فاجعة نهاية سوريا.

لن يستطيع حماية سوريا من لا يرى في عصابة آل الأسد الخطر الأكبر عليها، حتى وإن تواهم عكس ذلك، ولن يستطيع حماية سوريا من لا يرى في حملة السلاح تحت الرايات السود شركاء أساسيين في خراب سوريا.

من هو هذا الذي يدافع عن بقاء سوريا الآن؟ ومن هو هذا الذي يريد إنقاذها؟ ومن هو هذا الذي يراها فوق مصالحه، وفوق كل شيء، وقبل كل شيء؟ لا أحد.

حقيقة بسيطة وصادمة، وقد تثير الكثير ممن يتوهمون أنهم حماتها والساعين إلى قيامتها.

ولكن: لن يستطيع حماية سوريا من لا يرى في عصابة آل الأسد الخطر الأكبر عليها، حتى وإن تواهم عكس ذلك، ولن يستطيع حماية سوريا من لا يرى في حملة السلاح تحت الرايات السود شركاء أساسيين في خراب سوريا، حتى وإن تواهم عكس ذلك، ولن يستطيع حماية سوريا من لا يرى أن لا ضامن ولا ضمانة إلا في السوريين الذين يراهم أعداء له على كل حال. خارج هذه التصنيفات الثلاث كم يتبقى من السوريين؟ وإن كان هناك من هو خارج هذه التصنيفات وهو موجود، فهل هو قادر على فعل أي شيء؟

ليست سوريا هي المختطفة فقط، إن السوريين مختطفون أيضاً، وهم رهائن، ولا أحد من الأطراف التي اختطفت السوريين، وما تزال تختطفهم، لا أحد منها يرى فيهم شعباً له الحق في الحياة، وله الحق في وطن حر؛ إنها لا ترى فيهم غير أدوات في صراعها مع آخرين يريدون مشاركتها في تقاسم سوريا.

إذاً، متى يقرر السوريون أن يصبحوا سوريين أولاً؟ ومتى يخرجون من تحت عباءات الآخرين؛ ليرتدوا عباءات المواطنة في وطنهم؟ ومتى سيعترفون بما تقتضيه النزاهة والمسؤولية: إن ما من أحد ممن يتحدثون اليوم باسمهم يهمه مصيرهم إلا بما يحقق مصلحته؟

إن لم يتشارك السوريون في إنهاء عصابة آل الأسد، وفي إنهاء عصابات الرايات السود، وإن لم يرفعوا سوريا فوق أي اعتبار آخر، فلن يتمكنوا من إنقاذ سوريا، ولا من إنقاذ أنفسهم ومصالحهم، وستستمر دورة الخراب تدور حتى تلتهم سوريا بكل ما فيها؛ ليستيقظوا، بعد فوات الأوان، على أنهم بلا وطن.