
نقلت وسائل الإعلام لحظة انتحار الجنرال الصربي سلوبودان برالياك أحد أبرز مجرمي الحرب الكروات، وهو يتجرع السم أمام المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا يوم التاسع والعشرين من تشرين الثاني 2017، في مشهد نادر من حضور العدالة المفقودة في هذا العالم، رغم أن هذا القصاص الذي ألحقه برالياك بنفسه كان ألمه أقل بكثير من آلاف المآسي المستمرة التي خلفها وراءه، وحفز هذا المشهد السؤال لدى السوريين، هل سيحاكم النظام على جرائمه يوماً ما؟، أملاً بأي عدالة ممكنة.
خاصة وأن برالياك القائد العسكري السابق لكروات البوسنة، والذي حكمت عليه محكمة الجنايات الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة بالسجن 20 عاما لارتكابه جرائم حرب ضد مسلمي البوسنة، يعتبر نموذجاً مثالياً عن الشخصية السادية لنظام الأسد وأعمدته الأمنية المستمرة في قتل الشعب السوري الذي لم تأمنه حتى الآن القرارات الدولية من خوف، والذي لم يحصل على ترف المحصلة النهائية لعدد القتلى، مع استمرار ارتكاب المجازر في سوريا.
وللإجابة على السؤال، لا بد من العودة إلى أصل القانون الدولي القائم الآن، لمعرفة الآلية المعتمدة لتحصيل حق الموتى تحت التعذيب والذين صدرت لهم مؤخراً قوائم بأسمائهم من سجلات الأسد "المدنية"، في مفارقة زج بها القدر بسخرية مفرطة، فالسجلات المدنية لم تكتف بنزع صفة المدنية عنها، بل باتت منبراً لإعلان أسماء القتلى في مسالخ الأسد ومحارق صيدنايا.
فبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، أمضى محامٍ بريطاني يدعى هيو بيلو سنوات عديدة في محاولة لإقناع عصبة الأمم بتأسيس محكمة دولية في لاهاي تعمل على محاكمة مرتكبي جرائم الحرب، من وجهة نظره فإن الأعمال الوحشية التي ترتكب في الحروب تهدد الحضارة والإنسانية، لكن نداءات بيلو للتخفيف من وطأة الحروب لم تتحول لأمر واقع إلا بعد آلاف المجازر التي ارتكبت في أمريكا الجنوبية، وإفريقيا، وآسيا، وأوروبا الشرقية، والتي لا تنتهي بمجازر الأسد في سوريا.
وكانت جرائم الإبادة الجماعية في رواندا والبوسنة الشرارة التي دفعت الأمم المتحدة عام 1998، لصياغة معاهدة تقضي بتأسيس محكمة دولية تهتم بجرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، سُمّيت بمعاهدة روما.
يعتمد نظام الأسد على عدة عوامل لارتكابه جرائم الحرب بحق الشعب السوري، بداية بعدم توقيعه على معاهدة روما للمحكمة الجنائية الدولية، وبهذا لن تستطيع المحكمة الجنائية التدخل في سوريا، إذ يمثل عدم توقيع النظام على المعاهدة اعترافاً ضمنياً بالاحتمالية الكبيرة لارتكاب هذه الجرائم يوماً ما؛ وانتهاء بالفيتو الروسي والصيني اللذين عرقلا في مجلس الأمن عام 2014، محاولة لتفويض المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في الحرب السورية، إذ إن أي تفويض للمحكمة الدولية يتطلب موافقة مجلس الأمن.
وبهذا باتت احتمالات محاكمة النظام دولياً أقل بكثير من أي مكان آخر، وسط صمت دولي وغض للطرف عن الانتهاكات الصارخة من قبل نظام الأسد، والحاضرة بتقارير لجنة التحقيق الدولية ومنظمة العفو الدولية والتقارير الحقوقية الصادرة عن المنظمات الحقوقية السورية والدولية، التي تثبت مقتل 13000 معتقل تحت التعذيب في سجن صيدنايا بموجب تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية، و 55000 صورة لجثث الضحايا التي سربها "قيصر"، والتي تثبت مقتل 11000 معتقل تحت التعذيب في فرع فلسطين و فرع المنطقة و فرع المداهمة التابعة للمخابرات العسكرية، حيث تعد هذه الأرقام جزءاً من الحد الأدنى من العدد الحقيقي للضحايا في سجون النظام.
ولم تنجح خلال السنوات الثمان الماضية المنظمات الدولية بإطلاق سراح معتقل واحد حتى الآن، واكتفت ببيانات الإدانة، في عشرات القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، كما أن مسارات التفاوض الذي تشارك فيها المعارضة التي شهدت تغيرات كبيرة في خطابها وبنيتها تلبية للمتطلبات الدولية المتحكمة حتى في هذا المسار من الملف السوري، لم تقدّم أي أمر إيجابي في هذا السياق، رغم عشرات الجلسات التي عقدت في جنيف وأستانة وسوتشي.
إلا أن طرح ملف المعتقلين في المسارات التفاوضية وخاصة في جلسات أستانة السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة، ورغم الأخطاء الكثيرة التي وقعت فيها المعارضة قصداً أو بدون قصد والتي أعطت نظام الأسد الكثير من المزايا تساعده في التنصل من العديد من الالتزامات القانونية وفق القرارات الدولية؛ وتسارع الوتيرة الروسية للوصول إلى حل سياسي لسوريا، دفع الأسد للتعامل مع ملف المعتقلين، تمثل هذا التعامل بما صدر مؤخراً من قوائم لمعتقلين قضوا في سجون النظام عبر السجلات المدنية للمحافظات السورية.
ورغم أن النظام أعلن سبب الوفاة بأمراض مزمنة أو سكتات قلبية، في محاولة منه لتخفيف التبعات القانونية التي قد تنال منه، إلا أن ذلك يمثل اعترافاً كاملاً عن مسؤوليته في مقتل هؤلاء المعتقلين، إذ أن المبررات الكاذبة للنظام حول أسباب الوفاة، لن تؤخذ في الحسبان في حال وصول الأمر إلى محكمة دولية، والنظام مطالب أساساً بتأمين الرعاية الطبية للمعتقلين والسجناء، كما أن الكشف عن هذه القوائم الآن يوسع دائرة الاتهام داخل النظام لتشمل عسكريين وأمنيين وحتى وزراء حكوميين، باعتبار أن الكل بات مشاركاً بهذه الجرائم.
ويعتقد بعض الخبراء القانونيين أن النظام يحاول عبر هذا الأمر حصر الجرائم المرتكبة بعدد من الضباط ورؤساء الأفرع الأمنية لتقديمهم كقرابين لأي محكمة دولية قد تحدث، خاصة مع التحركات الأوروبية القضائية مؤخراً بإصدار مذكرات توقيف بحق اللواء جميل حسن رئيس فرع المخابرات الجوية في نظام الأسد وعدد آخر من المسؤولين.
ووفق هذا الواقع الدولي لا يمتلك السوريون خيارات جدية لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب من نظام الأسد، إلا في حال حدوث تغيير في أساسات المحكمة الدولية ومعاهدة روما، لتوسيع صلاحياتها بمحاسبة الجناة حتى لو لم يكونوا موقعين عليها، أو في حال تمكنت الدول المتدخلة في الشأن السوري من التوصل مع روسيا لتفاهمات تدفعها بسحب حق نقضها لتمرير قرار في مجلس الأمن لإحالة ملفات الجرائم إلى محكمة الجنايات الدولية، أو ربما ستقوم روسيا بحكم صراعها الناعم مع إيران على مستقبل سوريا بتقديم تسهيلات لمجلس الأمن والمحكمة الدولية في حال لم تتمكن من فرض شروطها حول ما تقوم برسمه والتفاهم عليه لسوريا جديدة، على كل من إيران والنظام.
كما أنه من المحتمل أن تلجأ الجمعية العامة للأمم المتحدة لإصدار توصياتها بهذا الشأن، استنادا إلى القرار رقم 377 أيه، والمسمى أيضاً قرار "الاتحاد من أجل السلام"، الذي يتم اللجوء إليه في حال أخفق مجلس الأمن، بسبب عدم توفر الإجماع بين أعضائه الخمسة دائمي العضوية، للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.
وفي هذا السياق قال المحامي إبراهيم علبي المدير العام للبرنامج السوري للتطوير القانوني لموقع تلفزيون سوريا، إنه "لا يمكن النظر للعدالة المطلوبة للجرائم المروعة كما التي في سوريا والتي راح ضحيتها مئات الآلاف، بنفس الطريقة التي ننظر إليها للعدالة الفردية عندما يقتل المجرم ضحية واحدة، لذلك من المحق أن يُطرح التساؤل حول العدالة المنتظرة من مجرمين قتلوا مئات الآلاف، كما يجب ربط سقف التوقعات حول عدد الأشخاص الذين ستتم محاسبتهم، وما هي المدة اللازمة لتحقيق هذه العدالة، خاصة أن كم الجرائم في سوريا ضخم جداً".
وأضاف علبي أن الجرائم ضد الإنسانية "لا تسقط بالتقادم، وذلك لعدم وجود عفو عام في القانون الدولي، العفو قد يشمل المقاتلين المتحاربين الملتزمين بقوانين الحرب، لذلك ولو بعد مرور عشرات الأعوام، لا يستطيع أحد القول إن الوقت قد انتهى لإجراء محاكمات".
وأشار إلى أن النظام "بحكم طريقة تعاطيه مع هذا الملف وخاصة عبر تركيز ممثله في الأمم المتحدة على نفي كل التهم الموجه ضده، لديه مخاوف حقيقية من الوقوع في المحاسبة على جرائمه، ولذلك يجب الاستمرار بالضغط عليه عبر كل الجهات القانونية، وفي نفس الوقت يجب ضبط سقف التوقعات حول محاسبة كل المجرمين".
وفي الانتظار لأي فرصة حقيقية لمحاسبة مجرمي الحرب -والتي لم يبد المجتمع الدولي أي رغبة تجاهها حتى الآن-، تستمر عشرات المنظمات الحقوقية السورية والدولية بتوثيق الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها النظام بحق الشعب السوري، من قتل تحت التعذيب والاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والاغتصاب والتهجير القسري والتغيير الديموغرافي، وسرقة الممتلكات، فضلاً عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين بالبراميل المتفجرة والصواريخ الارتجاجية التي دمرت مدناً سورية بحالها بشكل كامل.