هل تنجح الواقعية السياسية بتجميل الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي؟

2020.08.18 | 00:16 دمشق

amarat1.jpg
+A
حجم الخط
-A

قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن يصرّح علناً، وتمشياً مع استعراضاته المعتادة، عن قرب توقيع اتفاق "إبراهام" للسلام بين دولة الإمارات العربية وإسرائيل. وفي حمأة الفشل الذريع الذي يطبع سياساته الداخلية خصوصا فيما يتعلق بالتعامل مع جائحة الكوفيد 19 ومسألة العنصرية المتجذرة، وبعد أسابيع من اندلاع مظاهرات شعبية كبرى لم تشهد لها الولايات المتحدة مثيلا منذ حربها في فيتنام، وفي خضم عبور الدبلوماسية الأميركية حقول الفشل في الملف الكوري الشمالي والصيني والروسي، يبدو واضحاً بأن ترامب يود تسجيل انتصار معنوي قبل عدة أشهر من الانتخابات الرئاسية، حيث تسجل استطلاعات الرأي تراجعاً متزايداً لشعبيته، حتى في أوساط حزبه الجمهوري.

الإعلان عن هذا الحدث أثار جدلاً عربياً واسعاً بين رافض، وهم الأكثرية، وبين مؤيد، وهم الأقلية. وتميّز الرافضون بالتمسّك بالحق الفلسطيني المستباح على مذبح المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة بيد لاعبٍ قوي يُملي شروطه أمام لاعبٍ ضعيف منطقاً وبنية يكاد همّ البقاء يحجب عنه كل عناصر الوعي والانتماء. وأثرى الرافضون للخطوة والمُدينون لها تعبيرهم هذا باستعراض صريح لما ستؤدي إليه هذه الخطوة دونما شديد وهم باختلاف الحال إن لم يكن من إقدام علني عليها. فالنظام الرسمي العربي عموماً لم يقدم للقضية الفلسطينية إلا الخطابات الجوفاء من جهة، وبعض المساعدات المالية التي سعت من خلالها الدول المقتدرة للتأثير سلباً على وحدة الصف الفلسطيني ونجحت في ذلك غالباً. وأخيراً، استطاعت الأنظمة العربية بمختلف مشاربها الأيديولوجية، أن تستعمل قضية نبيلة وعادلة كحجة مناسبة دائماً لتبرير قمعها لشعوبها وإفقارها للبلاد وللعباد، تحت مشجب ضرورات "الحرب" ضد العدو الصهيوني ومسعى "تعزيز الصفوف" لمواجهة هذا العدو، مهما أثبتت الأحداث هلاميتها. وصارت أجهزة المخابرات التي سادت وطغت في الأمنوقراطيات العربية، تُقحم زوراً اسم فلسطين في كل خطوةٍ قمعية بحق نخبها السياسية المعارضة وبحق مثقفيها. ووصل الأمر بهذا الاستغلال القبيح، إلى تسمية أسوأ قسم أمني يمارس التعذيب والتنكيل بالسوريين كما بالفلسطينيين في سوريا، بفرع "فلسطين".

وتميّز الرافضون بالتمسّك بالحق الفلسطيني المستباح على مذبح المصالح الأمنية والاقتصادية المشتركة بيد لاعبٍ قوي يُملي شروطه أمام لاعبٍ ضعيف منطقاً وبنية

أما المؤيدون لهذا التصريح العلني، فقد تنوعوا، حيث برزت أبواق إعلامية سطحية المعالجة سريعة التقلب لا هدف لها إلا زج العبارات الجوفاء في جمل لا معنى لها، وهؤلاء لا يستحقون التوقف أمام خطابهم، رغم احتوائه على الإهانات اللفظية لشعب محتلة بلاده، والسخرية غير المضحكة من قضية أخلاقية وإنسانية كونية بامتياز، إلا في البرامج الفكاهية.

أما النوع الآخر من المؤيدين للإعلان عن "التحالف" الجديد، فقد برز من بين ممتهني الكتابة الذين جلبت أقلامهم عدداً واسعاً من القراءات ويمكن اعتبارهم بالمفهوم الغربي من "المؤثرين في الرأي العام". هؤلاء، وبمهنية عالية، وإن شابها الاعتباطية أحياناً، طرحوا مفاهيم تداعب الإنسان المقهور عقوداً في مختلف الدول العربية بحجة الأنظمة التي كما أسلفت، استغلت المسألة الفلسطينية لتعيث فساداً وقمعاً بهم. ولقد "أبدع" هؤلاء نصوصاً سعوا من خلالها الى إقحام تعبيرات سياسية في غير مكانها وكان من أبرزها مفهوم "الواقعية السياسية". وقد تطور الأمر بهم الى درجة أن تقمّصوا أدوار العالمين بالسياسية، وليس فقط المشتغلين بها، وأطنبوا قراءهم بدروس حول الواقعية السياسية. وهم بذلك يمارسون، عن حسن أو سوء نية، ودون معايير قيمية، التدليس بحق من لا باع لهم في المصطلحات التقنية التي، وإن بدا هذا المفهوم بسيطاً لتشمله، إلا أنه من أدق المفاهيم والذي كتبت فيه المجلدات.

أول استعمال فعلي للمفهوم أتى باللغة الألمانية على يد بسمارك (Realpolitik) ويعني: "السياسة الخارجية القائمة على حسابات القوة والمصالح الوطنية". وكان يسعى من خلال تبني هذا المفهوم إلى البحث عن توازن سلمي بين الإمبراطوريات الأوروبية في القرن التاسع عشر. والهدف الأسمى كان بالنتيجة تمكين قيام ألمانيا الموحدة. أما في عصرنا الحالي، فأهم منظري الواقعية السياسية هو هوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، وعلى الرغم من علميته في استعراض المسألة، إلا أنه يلاقي صدّاً موجعاً ممن ما زال متمسكاً بالأخلاقيات في السياسة، وخصوصاً من المدافعين منهم عن حقوق الإنسان. ويختصر فيدرين السياسة الخارجية، بحدود مصلحة الدولة وتجنبها للحروب وللنزاعات مع الحفاظ على المكاسب الاقتصادية المستدامة بعيداً عن أي دور أو وزن للحكومة القائمة في البلاد التي تمارس دبلوماسيتها هذه الواقعية، حيث أن أغلبها ينتمي إلى الممارسة الديمقراطية، وبالتالي، فتغيير القائمين على الحكم لا يمكن أن يرتبط بأهداف هذه السياسة. ويبتعد فيدرين في كتاباته عن التوقف أمام المعايير الأخلاقية وحقوق الإنسان والتي يعتبر بأن هناك مؤسسات أخرى، عدا الدبلوماسية، من يجب أن تناط بها.

وبمعزل عن مسألة المعايير الأخلاقية، وهي التي تبدو مشتركة بين التعريف العلمي للواقعية السياسية حسب فيدرين، والخطوة الإماراتية بإخراج التحالف مع إسرائيل إلى العلن، حيث اتفق الطرفان على استمرار الرمي بحقوق الفلسطينيين في سراديب النسيان التاريخي، كما القضاء على ما تبقى من حركات احتجاجية عربية ضد طغاة الحكم الذين شكل وجودهم واستمرارهم في الحكم ضمانة لا تقدر لإسرائيل، لن تحصل الإمارات كدولة، وليس كنظام، على أي مقابل ملموس منها. فالأمن والاستقرار اللذان ستؤمنهما العلاقة للحكام، لن ينعكسا إيجاباً على الحريات وعلى الانفتاح السياسي في البلاد، بل على العكس. والوفرة الاقتصادية المبتغاة من هذا الموقف لن تنعكس إيجاباً، كما هو عليه الحال منذ عقود، إلا على الجانب الإسرائيلي. ومهما ادعت الأبواق الصدئة، أو الأقلام المتمكنة، من أن هذه الخطوة ستساعد في التفاوض على حل عادل للمسألة الفلسطينية، فقراءة أولية للمعطيات ولما سبق من اتفاقيات إذعان، تودي إلى استنتاج لا رجعة فيه عن خيبة هذا الادعاء. فالواقعية السياسية التي تعتبر أن كل ما سبق هو عناصر أساسية لكي يجري تبنيها، غريبة عما يجري، وما يجري ما هو إلا ارتماء في أحضان حكومة يميينة عنصرية استعمارية استيطانية مقابل البقاء في الحكم.