هل تطبيعُ فلسطينيِّين.. يُشَرْعِنُ التطبيعَ العربيّ؟

2021.12.04 | 05:01 دمشق

amarat1.jpg
+A
حجم الخط
-A

ابتداءً، لا يكتسبُ الفعلُ العامُ شرعيَّةً، مِن جهة فاعلِه؛ فلا يكون غيرَ شرعيٍّ، ثم يصبح شرعيًّا؛ لأن جهةً ما قامت به. بل يُحْكَمُ عليه لذاته، ولجوانب الخير والمصلحة فيه، وَفْق المرجعية التي يجري الاحتكامُ إليها، أو وَفْق مرجعية إنسانية مُشترَكة.

واحتلال فلسطين فِعْلٌ عدوانيٌّ إكراهيٌّ، قامَ على أنقاض حياة الفلسطينيين الطبيعية، وتعمل دولة الاحتلال، باستمرار، على مَنْعِ عودتها، بل تعمل، وبالقرائن المتتالية الملموسة، على تقويض ما تبقّى للفلسطينيين من فرص العيش، بعد أن تعمّدَت دولةُ الاحتلال جرائمَ حربٍ اعترفتْ، مؤخَّرًا، بارتكابها، في أثناء تمهيدها لقيامها، وإبّان النكبة التي حلّت بالفلسطينيين، عام 1948، فقد اضطرت حكومة الاحتلال إلى كشْفِ بضعة ألوف من الوثائق التي أخفتها إسرائيل، منذ قيامها، تؤكِّد الروايةَ الفلسطينية حول أحداث النكبة الفلسطينية، والقائلة إن مئات ألوف الفلسطينيين الذين رحلوا عن وطنهم، في سنة 1948، تعرَّضوا لعملية طرْد، ولم يهربوا بسبب الخوف فقط.

 ولا يزال وصفُ الاحتلال هو المنطبق على إسرائيل في الأراضي الفلسطينية (والعربية) التي احُتلَّت، عام 1967، وَفْق القانون الدولي.  

والسؤال، الآن، هل لو وُجِد مِن الفلسطينيِّين مَنْ يقْبَل بالتطبيع مع دولة الاحتلال، أو ينخرط فعلًا فيه، هل يكون ذلك مُشَرْعنًا لغير الفلسطينيين، مِن العرب، أو حتى من غيرهم، أن يُطَبِّعوا معها؟

حتى أولئك المتورِّطين من الفلسطينيين بعلاقاتٍ تفاوضية مع دولة الاحتلال، أو المتواصلين معه، في قضايا مدنية وأمنية، هم أنفسهم لا يرون أنَّ التطبيع معها قد أصبح مُسْتَجازًا، ومُفيدًا لفلسطين وشعبها

لا شكَّ أن قوَّة الموقف الفلسطيني تعزِّز المواقف العربية، ولا سيما في أوساط الشعوب العربية، وفي المقابل، فإنَّ تصدُّع الموقف الفلسطيني؛ ما بين موافقٍ على علاقات مع دولة الاحتلال، ورافضٍ لمثل تلك العلاقة يمنح العازمين على التطبيع معها فرصةً؛ لإحداثِ بلبلةٍ تقِي مواقفهم، (عند البعض)، من الانكشاف التام، أو الإضرار المُبَيَّت بالفلسطينيين وقضيَّتهم.

علمًا بأن المُطبِّعين من الفلسطينيين لا يمثِّلون الكُلَّ الفلسطيني، وليست الحالاتُ النضالية الصُّلْبة، كما يفعل أهلُ حيّ الشيخ جرَّاح بالقدس، مثلًا، عنَّا ببعيدة. وحتى أولئك المتورِّطين من الفلسطينيين بعلاقاتٍ تفاوضية مع دولة الاحتلال، أو المتواصلين معه، في قضايا مدنية وأمنية، هم أنفسهم لا يرون أنَّ التطبيع معها قد أصبح مُسْتَجازًا، ومُفيدًا لفلسطين وشعبها.

فالسلطة الفلسطينية، وهي الجهة الرسمية للفلسطينيين أوقفت التفاوض مع كيان الاحتلال، منذ سنوات، بعد أن أظهر قادةُ الاحتلال تنصُّلًا من التزاماتهم، وَفْق اتفاقية أوسلو. ورئيس السلطة، ومنظمة التحرير الفلسطينية، محمود عباس، ظلّ يهدِّد باتِّخاذ قراراتٍ خطيرة؛ ردًّا على تلك المواقف الاحتلالية، كان مِن ضمنها التهديدُ بحلِّ السلطة، وسحْبِ اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، أيْ نقْض كلِّ ما تمّ بناؤه، وآخِرُ تلك التصريحات قولُه، قبل أيام، إنه "إذا لم تتراجع إسرائيل عن ممارساتها ضدّ فلسطين، سنتِّخذُ قراراتٍ حاسمة، سنبحثها في اجتماع المجلس المركزي القادم الذي سينعقد مطلع العام المقبل".

وبغضِّ النظر عن جِدِّية مثل تلك التهديدات، أو قدرة قيادة السلطة على تنفيذها، فإنها تعكس عُمْقَ الأزمة، ومرارة الخيبة التي تحسُّ بها قيادةُ السلطة، وقيادة منظمة التحرير، وحركة فتح.

وهذه السلطة التي تمثِّل الجناح الأكثر (اعتدالًا)، هاجمت تطبيعَ دولٍ عربية مع دولة الاحتلال هجومًا لم يخْلُ من حِدّة، حتى وصْفِه بالخيانة. وبغضِّ النظر، أيضًا، عن التزامها الفعلي بتلك المواقف المُندِّدة بالتطبيع، لجهة تعامُلها مع الدول التي انخرطت، في الفترة الأخيرة، في تطبيعٍ نشِطٍ، وواسع، مع دولة الاحتلال، مثل دولة الإمارات العربية، والمغرب، بالإضافة إلى البحرين والسودان، فإنَّ موقفها الأول يُنْبِئ عن حجم الأضرار والخذلان التي أحسّت به قيادةُ السلطة، أو على الأقل، تنبئ عن مقدار إحساسها بالنقمة الشعبية الفلسطينية عن تلك المواقف العربية الرسمية.

إذ الحاصل الآن، هو تأبيدُ إسرائيل لاحتلالها للأراضي الفلسطينية كلِّها، وسيرٌ حثيث نحو نظام الأبرتهايد؛ الفصل العنصري، واستيلاء على الأرض والموارد، وخنق للاقتصاد الفلسطيني، وتهويد للقدس والمقدَّسات، فضلًا عن الاعتداءات اليومية العنصرية للمستوطنين، على الفلسطينيين العزَّل، وبرعاية، أو حماية من قوَّات الاحتلال. هذا المسار الذي لا تُوارِب فيه دولةُ الاحتلال هو نفسه الذي تتجاهله الدولُ المُطَبِّعة، بل وتفتح أذرعها لاستقبال قادته، من وزير الدفاع، وغيره، وتنشَط في عقْد اتفاقيات تعاون متنوِّعة، غير مبالية بالرفض الشعبي الواضح من شعوبها، ودون أن تقف تلك النُّظُمُ المُطبِّعة على رأيِ مَنْ يُفترَض أنها تمثّلهم!  

ويحدث هذا التطبيع من نظم عربية، دون أنْ تعبأ، كذلك، بتلك الأصوات الحرّة والنزيهة من شخصيات مهمة، ومؤثرة، عالميًّا، ممَّن لا يربطهم بفلسطين سوى البُعْدِ الإنساني والأخلاقي، فإننا واجدون أدباءَ عالميين، رفضوا التعامُل مع دولة الاحتلال، أو حتى أيِّ مؤسسة لا تنأى بنفسها عنها، وندَّدوا بالاحتلال، وكان مِن آخرهم، الكاتبةُ والأديبة الأيرلندية سالي روني التي رفضت محاولة ترجمة روايتها "أيها العالم الجميل، أين أنت" -التي تصدَّرت قائمة أكثر الكتب مبيعًا، على موقع "أمازون" (Amazon)- من قبل دار نشر إسرائيلية تسمى "مودان". وقالت: إنَّ التقارير الأخيرة التي نشرتها هيومن رايتس ووتش، ومنظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية "أكَّدت ما تقوله جماعاتُ حقوق الإنسان الفلسطينية، منذ فترة طويلة: إنَّ نظام إسرائيل للسيطرة العنصرية، والفصل العنصري ضدَّ الفلسطينيين، يتوافق مع تعريف نظام الفصل العنصري، بموجب القانون الدولي".

ولم تكن سالي روني وحدَها التي تضحِّي بمكاسبَ مادية، أو معنوية، كبيرة؛ انسجامًا مع مبادئها الإنسانية والأخلاقية، بالرغم من عِلْم تلك الشخصيات الأدبية والفنِّية بقوّة النفوذ، وحجم الضغوط التي تتمتَّع بها دولةُ الاحتلال، وبالرغم من توقُّعاتهم الأثمان المرجَّحة التي سيضطرون إلى دفعها، ليس أقلَّها اتهامُهم بالعداء للساميَّة، بعد أنْ اقتربت دولة الاحتلال، (بالمغالطة والترهيب)، من النجاح في مساواة نقدها، ونقد سياساتها، باللاسامية، بالرغم من الفصل الحاصل بين العداء لليهود، كيهود، وبين انتقاد، أو مقاطعة دولة الاحتلال.

فكأنَّ هذين التطبيعين؛ مع المحتلِّ الإسرائيلي، والغَدْرِ الأسَديّ، وجهان لعملة واحدة؛ أساسُها الانتهازية، والاستضعاف؛ انتهاز الفُرَص

وهذا التطبيع العربي الرسمي مع دولة الاحتلال؛ السافرة في عدوانها، والمكشوف في افتقاده إلى أيّ شرعية، سوى مصالح تلك النُّظُم الذاتية، ينسحب على تطبيعٍ يشبهه في تهميش معايير العدالة، وفي تغييب الحسِّ الإنساني والأخلاقي، ذلك هو التطبيع مع نظام الأسد الذي لا يستند إلى شرعية انتخابية من شعبه، والذي يستبقي نظامَه؛ بتلفيق الحُلَفاء، مِن روسٍ وإيرانيِّين، وأخيرًا من بعض العرب، بعد أنْ ارتكب جرائمَ بالغة الفظاعة، من قتل عشرات الألوف من المدنيِّين، وتهجير للملايين، وتدمير للحواضر العريقة والسَّكَنية في سوريا.

فكأنَّ هذين التطبيعين؛ مع المحتلِّ الإسرائيلي، والغَدْرِ الأسَديّ، وجهان لعملة واحدة؛ أساسُها الانتهازية، والاستضعاف؛ انتهاز الفُرَص، في ظلِّ نظامٍ عالميٍّ غيرِ جادٍّ في تحقيق العدالة للشعوب المظلومة، واستضعافِ تلك الشعوب المُهَمَّشة، حاليًّا، ولكنها الباقية، والأصيلة، في تحديد العلاقات، وفي تصنيف الأصدقاء والأعداء.

هذا، وتُثبِت الوقائعُ، أنَّ هشاشة تلك المواقفِ المُجافية للحقِّ والعدالة تزداد، كلَّما فعَّلت الشعوبُ المظلومة حقَّها، بنضالٍ أو برفضٍ، يعرّي زيفَ التضليل، والوقائعَ المصطَنعة، فكلَّما ارتفعُ صوتٌ للمظلوم، خفَتْ صوتُ المُمَالئ للظالم، وأُحْرِج، فالحقّ لا يزول بالتقادُم.