هل تجنّد تركيا السوريين للقتال في ليبيا؟

2019.12.30 | 22:30 دمشق

images_17.jpg
+A
حجم الخط
-A

خلال الأسبوع الماضي، نُشرت بضعة تقارير تتحدّث عن قيام تركيا بتجنيد مقاتلين من سوريا وإرسالهم إلى جبهات القتال في ليبيا. سرعان ما انتشرت هذه الأخبار كانتشار النار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي وتسابقت بعض المواقع المعروفة لإعداد تقارير عن الموضوع.

وبالعودة إلى مصدر هذه الأخبار، ووفق ما وقفت عليه على الأقل شخصياً، فإنّ قناة الميادين كانت أوّل من تحدّث عن سحب تركيا ٢٠٠ مسلّح من الجماعات الموالية لها من منطقة شرق الفرات في سوريا من أجل نقلهم للقتال في ليبيا دون أن تستند إلى أي مصدر يمكن التحقق منه. بعدها بيوم واحد، قامت صحيفة زمان الوصل السورية بالبناء على ما نشرته الميادين، وأصدرت تقريراً في ٢٥ يناير تشير فيه إلى مبادرة كل من فصيل "السلطان مراد" وفرقة "المعتصم" المنضويين في إطار "الجيش الوطني"، والمعروفين بعلاقتهما القوية مع تركيا، بفتح باب التسجيل الطوعي أمام عناصرهم الراغبين بالـقتال في ليبيا إلى جانب القوّات العسكرية التركية.

وعزت زمان الوصال إلى مصدر عسكري لم تسمّه قيام تركيا بعرض ما بين ٢٠٠٠ الى ٣٠٠٠ دولار لكلّ عنصرٍ يسجّل اسمه للقتال في ليبيا، إلى جانب الطعام والشراب والأسلحة والذخائر، بهدف إغراء أكبر عددٍ من العناصر وحثّهم على الإقدام على أداء مهمةٍ قتاليةٍ لا تقلّ مدّتها عن ٣ أشهر في الأراضي الليبية دون تحديد تفاصيل المهام. لكن زمان الوصل انتهت إلى القول أنّ "هذه المحفزات المقدّمة من الجانب التركي لم تشجع هذه العناصر لتسجيل أسمائهم، إذ أكّد المصدر العسكري أنّ حركة الإقبال ضعيفة ولا تذكر حتى اللحظة".

بعد هذين التقريرين، نشرت بلومبرغ في ٢٧ ديسمبر تقريراً تقول فيه إنّه من الموقع أن تشارك مجموعات من الإثنية التركمانية ممّن قاتلوا إلى جانب تركيا في شمال سوريا في دعم حكومة الوفاق في ليبيا عازية تلك المعلومة إلى مسؤول تركي وآخر ليبي رفيع المستوى من حكومة الوفاق دون أن تسمّي أيّاً منهما. كما نقلت بلومبرغ عن رامي عبدالرحمن، مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان ومقرّه لندن قوله بأنّ تركيا جنّدت ٥٠٠ مقاتل تركماني سوري، مضيفاً "يقومون بتجنيد المقاتلين من مجموعات سورية مختلفة".

وفي نفس اليوم أيضاً، نشرت "يديل ايست آي" تقريراً تقول فيه أنّ أنقرة تواصلت مع عدّة مجموعات سورية مسلّحة حول إمكانية نشرها في ليبيا، مضيفة أنّ مجموعة السلطان مراد المؤلّفة من سوريين تركمان من بين المجموعات التي سيتم إرسالها الى ليبيا. وقد أرجع التقرير المعلومة الأولى إلى مصدر سوري معارض، فيما أرجع المعلومة الثانية إلى مصدر تركي دون أن يسمّيهما. وأضاف التقرير استناداً إلى المصدر السوري المعارض قوله إنّ "صقور الشام" وافقت على نقل بعض مقاتليها إلى ليبيا. ثم عزا التقرير إلى ناشط –لم يسمّه- من عفرين قوله أنّه تم نقل عشرات المقاتلين ممّن سبق لهم أن خدموا في الغوطة الشرقية من منطقة جرابلس إلى عفرين تحضيراً لنقلهم إلى ليبيا، غالبيتهم من فرقة المعتصم والسلطان مراد والحمزة وأحرار الشرقية.

الكاتب والمحلل السياسي الروسي المعروف يفغيني سيدوروف تحدّث عن إرسال تركيا ٦٠٠ من قوات المرتزقة، وقال إنّ ما أسماه "شركة سادات" التركية ترسل المرتزقة إلى ليبيا وأنّ ستة آلاف من المقاتلين السوريين من إدلب تم تجنيدهم للقتال في ليبيا.  

علاوة على ذلك، نُشِرَ على مواقع التواصل الاجتماعي مساء ٢٨ ديسمبر فيديو من مقطعين لا تتجاوز مدّتهما معا الدقيقة الواحدة ويظهر فيهما مجموعة من حوالي خمسة أشخاص تتحدّث السورية، وقد استخدم أيضاً كدليل على

من الأهمية بمكان القول أنّه إذا -صحّ بما لا يقبل الشك- أن هناك سياسة رسميّة تركيّة لتجنيد مرتزقة سوريين وإرسالهم للقتال في ليبيا، فإنّ مثل هذا الأمر مرفوض ومدان بشكل قاطع

صحّة المعلومات التي أوردتها التقارير أعلاه. (سيتم تخصيص مقال منفصل عن الفيديو).

وزارة الدفاع في الحكومة السورية لمؤقتة نفت نفياً قاطعاً أن يكون قد تمّ إرسال “أي من قواتنا وتشكيلاتنا العسكرية إلى ليبيا”. السلطات الرسمية التابعة لحكومة الوفاق المعترف بها دوليا أصدرت هي الأخرى بياناً ينفي بشكل قاطع حصول مثل هذا الأمر.

بعد استعراض المصادر التي تحدّثت عن قيام تركيا بتجنيد سوريين للقتال في ليبيا، من الأهمية بمكان القول أنّه إذا -صحّ بما لا يقبل الشك- أن هناك سياسة رسميّة تركيّة لتجنيد مرتزقة سوريين وإرسالهم للقتال في ليبيا، فإنّ مثل هذا الأمر مرفوض ومدان بشكل قاطع. لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: "هل هو كذلك"؟

لا يوجد حتى الآن ما يكفي من أدلّة "قاطعة" للوقوف على صحّته كمراقبين، لكن من خلال تحليل ما تمّ نشره حتى الآن وما هو متوافر حتى هذه اللحظة من معلومات، وبعيداً عن الأحكام المسبقة والمواقف الأيديولوجية أو المصلحيّة أو الشعبويّة، وبالاعتماد على مراجعة المتوافر ضمن الامكانيات الشخصية المتاحة، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:

كل المصادر المذكورة أعلاه -دون استثناء- مصادر مجهولة. تجهيل بعض المصادر المذكورة تمّ من خلال التذرّع بأنّ المصدر رفض الكشف عن اسمه نظراً لحساسيّة الموضوع. لكن مثل هذا الأمر لا يجب أن يحول دون ذكر تفاصيل أخرى عن المصدر لا تقل أهميّة عن اسمه ولا تعرّضه للخطر وتعزز من مصداقية الخبر في نفس الوقت. لكنّ ذلك لم يحصل بالطبع وهو ما يثير الشكوك حول صحّة هذه المصادر فضلاً عن مصداقيتها بطبيعة الحال. فضلاً عن ذلك، فإنّ المصادر التي تمّ النقل عنها لا تتناسب وطبيعة المعلومة المنقولة في الغالب كما سيتم إيضاحه.

الفكرة الأساسية لهذه التقارير واحدة وهي تجنيد تركيا لمرتزقة سوريين وإرسالهم للقتال في ليبيا، ويبدو أنّ جميعهم استند إلى تقرير الميادين الأول. الميادين محطّة لا مصداقيّة لديها في مثل هذا الميدان، وسبق لها وأن روّجت الأكاذيب والفبركات التي سرعان

التفاصيل الواردة متضاربة بشكل واضح لاسيما من حيث أماكن التجنيد والأعداد والتي تتراوح بين عدم الاستجابة للتجنيد بالشكل المطلوب ووصولاً إلى حوالي ٧ آلاف

ما تغذّت عليها الصحف العالمية ووكالات الأنباء وكان لها بالغ الأثر السلبي على الثور السورية ك "جهاد النكاح". لكن على أي حال، من الغريب جداً أن يكون المصدر الأوّل لمثل هذا الخبر غير سوري. إذ أنّ حجم جهود التجنيد واتساع رقعة التجنيد داخل سوريا وارتفاع أعداد المجنّدين –وفقا لبعض هذه التقارير- يفترض أنّه كان من السهل جداً على أي وسيلة إعلامية سوريا معرفة مثل هذا الأمر قبل غيرها.

وبالرغم من الفترة الزمنيّة القصيرة جداً التي تفصل بين هذه التقارير، إلاّ أنّ التفاصيل الواردة فيها متضاربة بشكل واضح لاسيما من حيث أماكن التجنيد والأعداد والتي تتراوح بين عدم الاستجابة للتجنيد بالشكل المطلوب ووصولاً إلى حوالي ٧ آلاف. وكذلك الأمر بين من يقول إنّه قد تمّ إرسال المجنّدين بالفعل، وبين من يقول إنّه سيتم إرسالهم.

لكن أكثر ما يلفت الانتباه في بعض هذه التقارير لاسيما "بلومبرج" و"ميديل ايست أي" هو الجهة التي تنتمي إليها المصادر "المجهولة". عادة ما تلجأ الحكومات أو الأنظمة إلى تجنيد المرتزقة لأنّ ذلك يعفيها من المسؤولية ويتيح لها إنكار حصول مثل هذا الأمر عندما يتم افتضاحها. لكن ووفقاً لمنطق التقارير المذكورة أعلاه، فإنّ مسؤولين أتراك وليبيين (تابعين لحكومة الوفاق) تطوّعوا بمحض إرادتهم بالإقرار بتجنيد مرتزقة سوريين للقتال في ليبيا، وهذا أمر لا يستقيم بتاتاً مع الغرض من القيام بمثل هذه العملية.

مسألة أخيرة، إذا ما أقرّينا أنّ أحد أهم أسباب القتال كمرتزقة هو الحصول على المال، فإنّ ذلك يقودنا إلى الاستنتاج بأنّه كان من الممكن جداً ومن الأسهل إجراء مقابلة مع أحد المجنّدين للحصول على معلومات أكثر دقّة وشفافية سيما مع الأخذ بعين الاعتبار الأعداد المذكورة.

ليس غرض المقال إنكار الأمر بشكل مسبق بقدر ما هو التدقيق في المعلومات المعروضة عنه للتأكيد من حصوله أولاً. علينا أن نقرّ بأنّه ليس هناك من دليل قاطع حتى الآن عن صحّة مثل هذه المعلومات. وإذا ما استمرت مثل هذه الحملة الإعلامية بالتوسّع في ظل غياب الأدلّة القاطعة التي تتيح اتخاذ الموقف المناسب منها، فهذا يعني شيئا واحد فقط وهو الانخراط في حرب معلوماتية وأخرى نفسيّة الغرض منها تبرير لجوء الطرف الآخر إلى المرتزقة.