هل بات مفهوم السيادة لعنةً على السوريين؟

2023.04.23 | 06:03 دمشق

السعودية تستضيف اجتماعا لوزراء خارجية العراق والأردن ومصر ودول مجلس التعاون الخليجي لبحث عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية في جدة بالسعودية
+A
حجم الخط
-A

شغل مفهوم (السيادة) حيّزاً مهماً في الأيديولوجيا القومية التقليدية، إذ غالباً ما ينطوي على مضمون قيمي رمزي، فضلاً عن إحالته إلى معاني القوّة والمِنعة، إذ إن سيادة الأمة إنما تعني سلامتها وحصانتها من أي تطاول خارجي، ولكن على الرغم من شيوع وتجذّر مفهوم السيادة في الفكر السياسي القومي، ومن ثم لدى السلطات الحاكمة في جميع البلدان العربية، فإنه غالباً ما كان يعني مسألتين اثنتين هما (السلطة والجغرافيا)، وقلما انزاح هذا المفهوم ليشمل المواطنين أو ممتلكاتهم أو كرامتهم أو معيشتهم أو أي جانب من جوانب الحياة البشرية للمواطنين بكل انتماءاتهم واعتباراتهم، بل يمكن التأكيد على أن المواطن في تلك البلدان هو على الدوام منذور دمه وماله للحفاظ على تلك السيادة متى تعرّضت للخطر.

ولئن كان هذا النزوع السيادي للسياسات العربية قد وجد مبرراته ومقوّمات وجوده في معارك الاستقلال الوطني في أربعينيات القرن المنصرم، إلّا أنه ما يزال يحتفظ بتأثيره وحضوره الطاغي حتى الوقت الراهن، بل ما يزال يجسّد المعين الذي تستمد منه السلطات الحاكمة الفحوى الرمزي في دفاعها عن كينونتها ليس في مواجهة أي تطاول أو اعتداء خارجي، بل في مواجهة محكوميها إذا ما اعترضوا يوماً ما على سياسات الحاكم وممارساته، فحينها يصبح احتجاج المحكوم جزءًا من اعتداء الخارج، ويصبح مطلوباً من الحاكم بل من دواعي الشرف عنده أن يواجه بكل ما لديه من قوة مصادر الخطر الذي يهدد سيادة البلاد وأمنها.

بالنظر إلى معظم أدبيات الفكر القومي التقليدي يمكن للمرء أن يدرك بيسر الأولويات التي حظيت بالجهد الأكبر من النشاط الفكري القومي، وأعني مسألة وحدة الجغرافية والسياسة، ولم تكن المسائل الأخرى كالتنمية والاقتصاد والديمقراطية توازي في طرحها الأولويات الكبرى، فالأهم هو (العام – مصلحة الأمة) واللاحق هو (المحلّي)، بل غالباً ما انطوى الاهتمام الزائد بالشأن المحلي اتهاماً مباشراً أو خفياً بالنزعة (القطرية) طالما أن الكيانات (الدول العربية الراهنة) هي حالة مؤقته يجب أن تفضي إلى كيان واحد.

منذ مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى الوقت الراهن لم يتخلَّ الحكام العرب عن سلاح (مفهوم السيادة) في أي معركة أو مواجهة، سواء أكانت خارجية أم داخلية، حتى حين يقوم ضابط عسكري بانقلاب على قرين له

منذ مرحلة ما بعد الاستقلال وحتى الوقت الراهن لم يتخلَّ الحكام العرب عن سلاح (مفهوم السيادة) في أي معركة أو مواجهة، سواء أكانت خارجية أم داخلية، حتى حين يقوم ضابط عسكري بانقلاب على قرين له فإنه يبدأ بيانه العسكري الأول بالقول: (حفاظاً على سيادة البلاد) في إشارة واضحة إلى مبررات انقلابه الذي قام به، ما يعني أن سيادة البلاد تكون بخير فقط حين تكون السلطة بحوزته، وتغيب السيادة وتصبح البلاد عرضة لكل أشكال الشر حين لا يكون قابضاً على السلطة، ولعل هذا النموذج لمفهوم (القائد الأمين المؤتمن الحافظ والعاصم للبلاد من جميع الشرور) لم يعد يجسّد إشكالية محلّية بين الحاكم والمحكوم في بلد محدد، بل بات نمطاً من أنماط التفكير السلطوي العام في أقذر أشكاله البراغماتية، إذ لا يتيح هذا النمط من التفكير لأصحابه التحرر من الشرائع والقوانين والقيم البشرية السائدة فحسب، بل من أي قيمة أخلاقية أو أي نزوع إنساني يعير شيئاً من الاعتبار لكرامة الكائن البشري، ولعل هذه المشكله، ممثّلةً بجذرها الأخلاقي، هي المضمون الجوهري لقضية السوريين في مواجهتهم الدامية للحرب التي أعلنها عليهم بكل ضراوة نظام الإبادة الأسدي منذ أعلنوا احتجاجهم مطالبين باسترداد شروط آدميتهم المغتَصبة في آذار 2011، إذ منذ الأيام الأولى للمواجهة أعلنت السلطة الأسدية أنها تحارب متآمرين على البلاد حتى ولو كانت نسبة هؤلاء المتآمرين تتجاوز نصف سكان سوريا، طالما أن مفهوم البلاد وسيادتها إنما يتجسدان بشخص الحاكم وأمنه فحسب، بدلالة أن البلاد بات اسمها ( سوريا الأسد).

على مدى خمس سنوات ( 2017 – 2022 ) أي تزامناً مع استمرار مسار أستانا واجه المواطنون السوريون شتى أنواع التوحّش والإبادة، بما في ذلك التهجير القسري واستئصال المواطنين من بيوتهم وبلداتهم كما عليه الحال في حلب الشرقية والغوطة ودرعا والعديد من المدن والبلدات، وإعادة سيطرة قوات الأسد على ما يسمى مناطق خفض التصعيد، وفي نهاية كل لقاء للدول الراعية لأستانا يصدّرون بيانهم الختامي بعبارة (الحفاظ على سيادة وأمن الدولة السورية)، في نزوع واضح إلى أن سيادة سوريا إنما تعني استمرار سيادة الحاكم وسلامته واستمرار تمكينه من السيطرة على البلاد، أمّا من يموتون بوابل قصف الطائرات الروسية والذين ينزحون ويُطردون من ديارهم فلا علاقة لهم بمفهوم السيادة ولا الأمن، وحين أعلنت الحكومة التركية توجهها بالتقارب مع الأسد في شهر آب من العام الفائت كان الحفاظ على وحدة وسيادة سوريا هو الشعار الذي يجبّ جميع ما ارتكِبَ بحق السوريين من فظائع، ولن تكون الأنظمة العربية الزاحفة لإعادة احتضان الأسد أقل تمسّكاً وبراعة في استثمار مفهوم السيادة كسبيلٍ ليس لتلبية مصالحها السلطوية فحسب، بل لتعزيز مأساة الشعب السوري وتأبيد معاناته، علماً أن تلك الحكومات العربية هي ذاتها من نعتت الأسد بالمجرم والقاتل حين قاطعته، وكل ممارسات وسلوك (مجرم الأمس) بعد القطيعة تؤكّد التصاقه الوثيق وعدم مفارقته بالمطلق لنهجه الإجرامي، فما الذي جعله اليوم (فخامة الرئيس)؟ إنه مفهوم السيادة والحرص على سلامة وأمن البلاد السورية، ومن الذي يهدد سلامة الدولة السورية وأمنها؟ هل هي إسرائيل؟ لم يسبق لأي دولة عربية من الساعية نحو التطبيع مع الأسد أن احتجت أو أعلنت رفضها وإدانتها للاستهداف الإسرائيلي المتكرر الذي جعل من الجغرافية السورية ساحة للعبة (القط والفأر) بين طهران وتل أبيب، وكذلك لم تجد أيٌّ من تلك الدول في الاحتلال الروسي المطبق على مقدرات الدولة السورية، ولا في التوغل الإيراني المخيف، أي مظهر من مظاهر انتهاك السيادة السورية، ولا هي في وارد حسبانها أكثر من مليوني شهيد وإفراغ البلاد من  نصف سكانها بين مهجّر ونازح، ولا مئات الآلاف من المعتقلين والمعتقلات في السجون، نعم إن جميع تداعيات المقتلة السورية التي جسّدت أكبر المآسي فداحةً في العصر الحديث لا علاقة لها من قريب أو بعيد بمفهوم السيادة كما هو لدى الحكومات العربية، بل لعل السوريين الذين ناهضوا الطغيان وطالبوا باسترداد حقوقهم وحريتهم هم وحدهم ليس الخطر الداهم لسيادة البلاد السورية فحسب، بل للأمن القومي برمته!

ربما كانت الحكومات اللاهثة نحو الأسد أكثر انسجاماً مع لهاثها لو أفصحت بصدق عن مسعاها بتحقيق مصالحها الأمنية والسلطوية كأولوية قيمية لديها تتقدّم على أي اعتبار أخلاقي أو إنساني تجاه الشعوب، ولن يكون للسوريين – حينئذٍ – أو لسواهم أي قدرة على الاعتراض ولن يكونوا أوصياء على سياسات الدول الأخرى، أمّا أن يكون مفهوم السيادة الزائف سبيلاً لتعويم المجرم وتأبيد الجريمة، فذلك هو الوباء الأخلاقي الذي أُسست عليه السياسات العربية حيال شعوبها.