هل الشرق الأوسط أمام وستفاليا جديدة؟

2024.11.27 | 05:36 دمشق

آخر تحديث: 27.11.2024 | 05:36 دمشق

25555554
+A
حجم الخط
-A

تثير تسارع الأحداث على المستويين الجيوبوليتيكي والسكاني تداعيات يغلب عليها طابع التغيرات الشاملة لبعض المناطق والقضايا الاجتماعية والسكانية، وطابع اقتصادي سياسي لبعضها الآخر.

وبالمحصلة، فإن النتيجة تقود إلى زعزعة البنى التقليدية للتنظيمات السياسية والاجتماعية، والحدود المرسومة منذ 100 عام. والمحتمل أن تحولاً جديداً سيتجاوز الأطر "الوطنية" عبر انهيار دول ومنظومات وبروز أخرى، خاصة أن الربيع العربي كشف كذبة الأنظمة حيال قوتها ومناعتها، وفضح عورة ضخمة حول بؤس وضعف حال الدولة أمام التطورات السريعة، ما أدى إلى تآكل الشكل السياسي الموجود، والذي سيفضي في النهاية إلى زوالها الحتمي والاستعاضة عنها بأشكال جديدة. فالظروف البنيوية والتاريخية التي أفضت إلى ظهور مفهوم الدولة في الشرق الأوسط منذ قرن، كان يتوجب أن ينبثق منها شكل تنظيم جماعي وازن، خاصة أن الربط بين الدولة والأمة قائم على أساس أن الدولة هي إطار قانوني للجماعة، والأمة تُعتبر انتماءً ثقافياً عرقياً لتلك الجماعة.

وكان يُفترض، كي تستمر الدولة-الأمة، أن تقوم على ثلاث ركائز أساسية، وهي: التحول من نظام فوق قانوني أو لا قانوني إلى نظام يحكمه القانون، والتبديل من نظام مطلق إلى فضاء للديمقراطية، ثم التحول من نظام يضمن الحقوق السياسية للأفراد إلى نظام يسهر على تحقيق الحقوق الاجتماعية، وفقاً لتعبير "يورغن هابرماس".

وعوضاً عن كل ذلك، فقدت دول الربيع العربي مكانتها وهيبتها وأهميتها، خاصة بعد أن فشلت ككيان في ربط المجموعات البشرية بنفسها.

لا يمكن أن توجد دولة في غياب هذا الركن، ولا يمكن جمع سلطتين مستقلتين تتمتع كل منهما بالسيادة على إقليم واحد، لأن وجودهما معاً يؤدي إلى أن تقضي إحداهما على استقلال الأخرى.

وأثبتت السنوات الأخيرة غياب معاني الانتماء كالثقافة والعرق... إلخ، ما خلق نوعاً واضحاً من التباغض بين الدولة والقواعد الاجتماعية.

وعوضاً عن التركيز على مبدأ مصلحة الدولة داخلياً قبل كل شيء، راحت غالبية الدول الهشّة في الوقت الحالي تتجه صوب التدخل في الشؤون الداخلية لجيرانها ومن حولها، لتجد نفسها فاشلة في وظيفتها الأساسية، وهي تنظيم المجتمع ورعاية المصالح الفردية والجماعية.

لنصل إلى مرحلة أن التشكيلات السياسية الموجودة حالياً هي سلطة حاكمة فعلاً، لكنها لا تشكل دولاً بالمفهوم المتعارف عليه: مجتمع له سلطة حاكمة ورقعة أرض تعلو فيها السلطة بشكل شرعي على أي فرد أو جماعة يعيشون في هذا التجمع.

وعوضاً عن ذلك، برز مفهوم وتطبيق جديد اتبعته الأنظمة للحفاظ على نفسها والتحكم بالدولة، حيث شكّل العنف الذي مارسته مؤسسات السلطة ضد رعاياها، وفقاً لمخيال السلطة، عنفاً مشروعاً! وتم الربط بين وجود العنف والإبقاء على الدولة. بل إن غياب العنف خلال مسيرة التحكم بالبنى الاجتماعية يؤدي بالضرورة إلى غياب مفهوم الدولة، وفقاً لتلك الأنظمة طبعاً. في حين أن الواقع السوي والسلمي يقول إن أهم شيء في مسار التحضر والحداثة السياسية هو مرحلة التطور الاقتصادي والسياسي، وهو ما يُشكل المُمهد لظهور مفهوم المواطنة وحقوق القوميات وتطور المجتمع المدني وانفصاله عن ضغط السلطة.

أغلب الدول التي تعيش تحت التهديدات والتحديات أصبحت تفتقد لمفهوم الإقليم لممارسة السيادة، فالإقليم يمثل النطاق الذي تُباشر عليه الدولة سيادتها، وتفرض فوقه نظامها، وتطبق عليه قوانينها. أو وفقاً لتعبير الحقوقي الألماني "هانس كلس"، هو المجال المكاني لصلاحية المعايير القانونية. أي أنه ركن أساسي من أركان قيام الجماعة السياسية، ودليل على استقلال السلطة فيها.

وعليه، لا يمكن أن توجد دولة في غياب هذا الركن، ولا يمكن جمع سلطتين مستقلتين تتمتع كل منهما بالسيادة على إقليم واحد، لأن وجودهما معاً يؤدي إلى أن تقضي إحداهما على استقلال الأخرى. ومن ثم، لزم تحديد مجال معين لكل دولة تمارس اختصاصها عليه ويمتنع عليها تخطيه. والأكثر وضوحاً أن الإقليم يُعرف بأنه فضاء ذو أبعاد ثلاثة، حيث لا يتحدد بالمجال البري-الأرضي فحسب، بل يشمل أيضاً المجال المائي والجوي. كما أنه غالباً ما يتحدد بالحدود الطبيعية مثل الجبال والبحار، أو بحدود صناعية تُستعمل كعلامات يُستدل بها على نهاية الإقليم مثل الأسلاك الشائكة.

ولو أسقطنا ما سبق على حال أغلب الدول العربية، والمهددات والمخاطر التي تحيط بالإقليم العربي، بدءاً من غياب مفهوم الدولة والسيادة في أغلب الدول التي تشهد صراعات دموية منذ أكثر من عقد مثل سوريا واليمن، أو منذ بدايات تغيير النظام السياسي مثل العراق، أو حالة اللااستقرار واللا دولة مثل لبنان وجنوبه، مروراً بالتهديدات الوجودية لإيران وتركيا على الدول العربية، ووصولاً إلى الأزمات المستفحلة في السودان وقضية المياه بين مصر وإثيوبيا، ومشكلات القرن الإفريقي، وتداعيات ونتائج التطبيع العربي الإسرائيلي. هل حقاً أن حل الدولتين سيُبصر النور بين القدس وتل أبيب؟ خاصة مع تتالي الهجمات الإسرائيلية على لبنان وجنوبه، وقبلها لأكثر من عام على غزة والضفة، والقصف المستمر على الحوثيين في اليمن، والوضع في سوريا، والحشد الشعبي والجماعات المسلحة في العراق. ووسط كل هذه الدماء والحروب الدينية والسياسية والجغرافية والانقسامات، وغياب مفهوم الانتماء والمواطنة، وتشعب مصادر القرار، وتكاثر هياكل الحكم المحلية، والهويّات العابرة للحدود أو ما فوق الوطنية في الكثير من البلدان والدول، هل حقاً يُمكن إعادة اعتماد الحدود والشكل السياسي السابق للدول؟ علماً أنه ما عاد ممكناً مواجهة أثر العولمة في البناء الهويّاتي الثقافي العرقي للأمم والجماعات، أو البحث عن آفاق الشرعنة السياسية كطرق وآليات لإعادة بدء النظام القديم مُجدداً، أو الوقوف في وجه التهديدات والبدائل لأشكال التنظيم السياسي والاجتماعي التقليدية التي هي الدولة.

ربما لن تكون الحلول على شاكلة الحلول التي جاءت بها اتفاقية وستفاليا سنة 1648، حيث شكّلت معاهدة الصلح حينذاك إطاراً للتأسيس الأخلاقي والسياسي للحياة في الجماعة، وشكّلت وعاءً لنمو وتطور النظام الرأسمالي كنمط تنظيم اقتصادي.

فإن الواضح هو تغيير وجه المنطقة، والخروج باتفاق جديد سيفضي إلى شكل جديد لأشكال الدولة وأنظمة الحكم. خاصة أن أي شكل جديد للشرق الأوسط سيفرض حدوداً جديدة، أو نظم حكم وأشكال دولة غير الموجودة حالياً. وربما لن تكون الحلول على شاكلة الحلول التي جاءت بها اتفاقية وستفاليا سنة 1648، حيث شكّلت معاهدة الصلح حينذاك إطاراً للتأسيس الأخلاقي والسياسي للحياة في الجماعة، وشكّلت وعاءً لنمو وتطور النظام الرأسمالي كنمط تنظيم اقتصادي، وأيضاً ازدهرت الأفكار الديمقراطية التي نظمت وفقها الحياة السياسية. لكنها حتماً ستأتي بتشكيل اجتماعي جديد كلياً، وربما تشهد المنطقة انهياراً واختفاءً لدول، وبزوغ نوع جديد من التشكيلات السياسية الجغرافية، مثل تشكيل قوة عسكرية عربية لن تعادي التطبيع العربي، وإعادة الوجه الحضاري إلى لبنان كما كان في الستينيات من القرن الماضي، وإيجاد نوع من العلاقة بين كردستان العراق والمنطقة التي ينتشر فيها الأكراد في سوريا، إضافة إلى تغير كامل في شكل النظام السياسي في إيران، لن يبقى كردها دون فوائد أو حصاد للنتائج، تغييرات في عملية السلام في تركيا، وشكل دستوري جديد فيها، وإيجاد حل سياسي سلمي شامل لليمن، ومشكلات القرن الإفريقي وإثيوبيا، عبر فرض شكل جديد للعلاقات بين الطرفين، وتطوير عجلة الاقتصاد بينهما وبين الخليج العربي، وحل قضية المياه مع مصر. وكل ذلك لن يتم من دون إرساء الديمقراطية وأشكال جديدة للحكم والدولة، ووضع حلول لقضايا الشعوب القومية الخاصة، والمجتمع المدني، ومسارات تمكين الشباب والمرأة... إلخ.