هل الحكومة أفهم من بني آدم؟

2018.07.23 | 01:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

السوريون، وخاصة مَن ثار على منظومة الاستبداد، ليسوا بخير. هُزِموا؟ فشلوا؟ تعثروا؟ نعم؛ كل ذلك حدث لهم. والأسباب لا تُعَد ولا تُحصى. هناك مَن فحص ومحّص وفلسف الأمور وخَلُص إلى نتيجة مفادها "أن فشل المعارضة هو السبب؛ وذلك لعجزها في صوغ مشروع وطني جامع؛ أو إيجاد إطار نظري لمشروع يؤمِّن المناطق التي حررها الجيش الحر إدارياً وخدماتياً، ونقل المعارك إلى داخل المدن؛ ما جعل تلك المناطق عرضة للتصافق المصلحي بين الدول، ونفوذ التطرف الهش المريض؛ وأن المعارضة عملت تماماً مثل النظام في تدويل الصراع وتطييفه متأثرة بعقدة احتكار السلطة والشخصنة والتكتلات ما دون الوطنية، وأنها لم تكن تمتلك أي رؤية استراتيجية للصراع؛ أو أي فهم حقيقي لقدرات وعلاقات النظام المنظورة وغير المنظورة."

لا غبار على هذا الكلام؛ ولكن هذه الرؤية تمثل الشكل الرسمي المثقف النخبوي المتفلسف في مقاربة فشل المعارضة وأسبابه في الارتقاء لقضية غاية في النبل. ولكن إذا ما قاربنا المسألة بالشكل الشعبي، الذي يلمس ربما خاطر الملايين من السوريين الموجوعين فعلاً، فإننا سنرى القصة بصيغة أقرب لمأساة سوداء فجائعية "بطلها" الأساسي نظام استبدادي قاتِل وحلفاء لا يقلّوا عنه إجراماً؛ أبطلوا مفعول أية معارضة؛ حتى ولو لم ترتكب أي من الخطايا أعلاه، وحتى لو طبّقت كل التوصيات المذكورة.

سنرى القصة بصيغة أقرب لمأساة سوداء فجائعية "بطلها" الأساسي نظام استبدادي قاتِل وحلفاء لا يقلّوا عنه إجراماً؛ أبطلوا مفعول أية معارضة

في سورية، درجت عبارة تقول: "الحكومة أفهم من بني آدم"؛ وثبت أن تلك المقولة فاعلة جداً. ما كان لسوري أن يتصور أنه في آذار 2011 ستقوم حكومته أو السلطة الحاكمة بإطلاق النار علناً على سوري يخالفها الرأي. لقد حدث ذلك؛ وتدرجت السلطة من إطلاق الرصاص إلى استخدام المدافع والدبابات والصواريخ وصولاً إلى السلاح الكيماوي. ولم تكتفِ بذلك، بل جلبت ميليشيات ومرتزقة، وحتى احتلال دولة "عظمى"؛ كي تخرس أو تذبح هذا "البني آدم" الذي هتف للحرية، مخالفاً ما تريده السلطة.

وفي العودة إلى مقولة /الحكومة أفهم من بني آدم/، ثَبُتَ أن السلطة تجاوزت بـ "فهمها" سذاجة وطيبة ومسلمات السوري، الذي بنى حياته على مبدأ السلم واللا مواجهة مع السلطة في ظل موات قاتل للحياة السياسية؛ تماماً على العكس من منظومة الاستبداد التي بنت حياتها على مبدأ المواجهة؛ حيث كانت متربصّة ومستعدة للقتل في وجه أي "لا" يطلقها سوري.

لا بد أن لحظة استشعار منظومة الاستبداد لعصيان من نوع ما قد استحضرت كل ما توفر من تجارب دولية قمعية لسحق ما يحدث، أو قد يحدث. كان لا بد بداية من شيطنة انتفاضة السوريين وتهويلها وجعلها منبوذة داخلياً وعالمياً؛ فكانت سردية منظومة الاستبداد في "المؤامرة" و"المندسين" و"الصهيونية" و"قطر" و"حبوب الهلوسة"؛ ولكن الأمضى والأقوى كان سلاح /الإرهاب/ الذي استخدمته لوصف كل سوري يخالفها؛ فإسرائيل قتلت القضية الفلسطينية تحت هذ اليافطة. والسلطة الجزائرية قتلت ما يقارب النصف مليون جزائري بعد أن بثت الإرهاب والتطرف في المجتمع الجزائري، وأرعبته، وبدأت بقتل كل من يخالف سلطة العسكر.

لقد فاقت شطارة سلطة الاستبداد الأسدية كل هؤلاء؛ تواصلت معهم؛ تعلمت منهم؛ وتجاوزتهم. من سجونها أخرجت مجرمين ومتطرفين، وكانوا روح "داعش" وعصب "النصرة"؛ فهي حوّلت هؤلاء إلى قوة ضاربة في الثورة، وإلى الوباء المُشَوّه لها دولياً وعالمياً، واللغم المدمر الذي ثار في وجهها. وبذا ضيّع ذلك الوباء قصة شعب سورية الثائر وقضيته الأشرف في الحرية ورفض الاستبداد والظلم والإرهاب. لقد تحولت السلطة الأسدية إلى "مغناطيس" (بوصف أحد قادة العالم) يجذب شذاذ آفاق الأرض؛ لقد كانت المغناطيس الجاذب للإرهاب. في مقابل ذلك كان الفقرُ السياسي الذي شابَ من تصدى لحمل لواء المعارضة السياسية.

فكانت سردية منظومة الاستبداد في "المؤامرة" و"المندسين" و"الصهيونية" و"قطر" و"حبوب الهلوسة"؛ ولكن الأمضى والأقوى كان سلاح /الإرهاب/ الذي استخدمته لوصف كل سوري يخالفها

زد عليه أن منظومة الاستبداد استنجدت بخبث لافروف السياسي، وجذوره الاستبدادية، وحقده على كل ما هو تحرري. ولا يفوتنا بالطبع ما رافق ذلك - وراق لمنظومة الاستبداد- من رخاوة أمريكية مُشَغلَة بفعل إسرائيلي قلقٍ على حامي حدود الكيان الشمالية. وفي كل ما جرى كانت سلطة الاستبداد - بخبثها وتخطيطها الإجرامي - متقدمة خطوة وأكثر عن ذلك "البني آدم" السوري، الذي سعت إلى سحقه وتضييع حقه.

ولكن يبقى الخطر الحقيقي في ألاّ نتعلم مما حدث. لقد كانت طريقة "البني آدم" الأصعب والأمرّ في التعلم. لقد تمخض عن ذلك خراب نصف بلد، وتشرد نصف شعب. كان ذلك درساً لنا وللعالم. وأن يتكرر هو المصيبة بعينها. لنعمل على أنفسنا؛ لنركز على الثوابت: نريد عودة وطننا إلى الحياة- وطن لا استبداد فيه، ولا تكرار لتجربة الألم الدكتاتورية وظلمها واستبدادها. ولنعلم أن منظومة الاستبداد رغم شطارتها، نسفت السيادة؛ استقدمت الاحتلال ليحميها؛ جرائمها لا تسقط بالتقادم أو "البهورة" والكذب. لا بوتين ولا ترامب يمكن أن يزيل تلك الملفات الإجرامية.

لا بد من تطوير الثقة بين بعضنا البعض؛ فالتزاحم على "المناصب" كارثة. الثورة ومسيرة التغيير ليست رحلة في قطار تغادرها إن لم تكن مرتاحاً تماما. ثقافتنا أساسية في معمعة كهذه. إيثارنا مبدأ. وحبنا لبعضنا البعض وتسامحنا ركائز لا خلاص دونها. النشاز فينا هو الاستبداد، والأنانية، والانتهازية. السلطة القمعية أخذتنا رهائن، تماماً كما كنّا رهائن استعجالنا، ورهائن عدم خبرتنا، ورهائن الخارج أحياناً. كل دقيقة في السنوات الماضية درس يصنع أهم ثورة تحرر في العالم. فإذا رأيت من هو أطول منك ببضعة سنتميترات يجب ألا تستنفر وتحاول تقصير عنقه؛ فهذا مسلك منظومة الاستبداد. وإذا وجدت رأياً لا يروقك، لا تسعى لتدمير مطلقه، بل تعلّم منه. أشِدْ بمن هو مختلف عنك، علكما تصلا للهدف الأسمى. هذه ليست نصائح أو مواعظ أو توجيهات. هذه مسلمات حياة موجودة في داخل كل منا؛ لا تحتاج إلا إلى تفعيل.

رسمياً وحسب المقاربة البحثية في استهلال هذه الورقة، لا بد من وضع الآليات التنفيذية لمؤسسة العمل داخل المعارضة السورية؛ لا بد من تجميع طاقات العمل السياسي كلها، والعمل بعقلية الدولة. هكذا يكون الخلاص قريبا؛ وهكذا يكون "البني آدم" أفهم من الحكومة؛ بعكس المثل الدارج.