هل أزف رحيل قسد من تل رفعت ومنبج؟

2022.07.13 | 06:30 دمشق

الجيش التركي
+A
حجم الخط
-A

ربما بات الحديث عن عملية عسكرية تركية في الشمال السوري يتجاوز حدود المعركة المفترضة التي تتوعد فيها أنقرة خصومها (حزب الاتحاد الديمقراطي ب ي د) الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني (ب ك ك)، بل ربما بات يجسد صراع إراداتٍ دولية في ظرف تجد فيه تركيا نفسها تملك من أوراق القوة أكثر من ذي قبل، ولكن على الرغم من ذلك فإن المعارك الأساسية مهما طالت، لا بدّ في النتيجة أن تحسمها الوقائع على الأرض، فضلا عن أن سخونة الحديث الإعلامي التركي عن العملية العسكرية قد وصل إلى الدرجة التي يمكن أن يليها الانفجار.

المعطيات الميدانية في الأيام القليلة الماضية باتت تشير بوضوح إلى أن التحرك عسكرياً تجاه مدينة تل رفعت بات وشيكاً، ذلك أن الاستهداف التركي لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) يوم الأحد الماضي كان مختلفاً من حيث النوعية عن سابقاتها، إذ استهدفت أنقرة غرف العمليات وخطوط الإمداد، فضلاً عن التحضيرات الكبيرة على الأرض من جانب الجيش الوطني والجانب التركي.

استهداف أنقرة لنقاط قوات النظام الموجودة في تل رفعت يشير بوضوح إلى أن العملية العسكرية قائمة سواء بوجود قوات النظام أو بغيابها

أضف إلى ذلك أن استهداف أنقرة لنقاط قوات النظام الموجودة في تل رفعت يشير بوضوح إلى أن العملية العسكرية قائمة سواء بوجود قوات النظام أو بغيابها، وربما كان هذا الاستهداف أيضا يجسد رسالة شديدة الوضوح لنظام الأسد تبلغه بإصرار أنقرة على تحقيق مسعاها.

لئن كان من أبرز سمات السياسة التركية هو الاستثمار الكامل للوقت، ولجميع الفرص المتاحة، وعدم الإقدام على العمل العسكري إلا بعد عملية إنضاج لكافة المواقف الدولية والإقليمية، فضلاً عن تهيئة الشارع التركي لتقبّل أي نتائج للعملية.

إن شريك أنقرة ومنافسها في الوقت ذاته، ونعني بذلك الطرف الروسي، يبدو اليوم أكثر استعداداً لتفهم دوافع تركيا نحو العملية العسكرية، ولعل تصريحات وزير الخارجية الروسي لافروف أثناء زيارته الأخيرة لأنقرة تؤكد ذلك، بالطبع هذا التفهم الروسي لموقف أنقرة لا يجسد انسجاماً روسياً تركياً في السياسات، بقدر ما يجسد ضيقاً وانحساراً في الخيارات المتاحة أمام روسيا، التي ربما يكون قد أزعجها القبول التركي بانضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو، إلا أنه على الرغم من ذلك تبدو مرغمة على الحرص على ألا تذهب تركيا إلى أبعد من ذلك تجاه الغرب، ولعل الحسابات الروسية بعد غزوها لأوكرانيا ودخولها في مواجهة مع أوروبا وأميركا جعلها أكثر إذعاناً للمصالح التركية، وخاصة أن الحسابات الدقيقة لنتائج العملية العسكرية باتجاه تل رفعت لا تجعل الروس يخسرون الكثير، إذ إن سيطرة بوتين في الأصل على تلك المنطقة إنما كانت بدافع كيدي ضد أنقرة وليست لحسابات توجبها المصالح آنذاك، إذ إن إسقاط سلاح الجو التركي للطائرة الروسية سوخوي 24 في شهر نوفمبر 2015، هو ما جعل بوتين حين كان في أوج زهوه وجبروته، يشعر برغبة كبيرة لرد الاعتبار، ما دفعه إلى دعم وتمكين ميليشيا قسد من احتلال منطقة تل رفعت وما حولها، وهو يعرف ضمناً مقدار الحساسية التركية من وجود تلك الميليشيات على مقربة من حدودها، وربما حان الوقت لترد تركيا هذا الكيد إلى بوتين بمثله.

لعل الحسابات الروسية بعد غزوها لأوكرانيا ودخولها في مواجهة مع أوروبا وأميركا جعلها أكثر إذعاناً للمصالح التركية، وخاصة أن الحسابات الدقيقة لنتائج العملية العسكرية

على أية حال لا يمكن حصر دوافع المعركة بالجانب الكيدي فحسب بل ربما كانت المصالح التركية هي الدافع الأساسي، وقد يكون من أبرز هذه المصالح هو الحيز الجغرافي لمنطقة تل رفعت وما حولها من بلدات وقرى، والتي من الممكن أن تتحول إلى ملاذ آمن ليس لعودة أهلها الذين نزحوا منها إبّان احتلال قسد لها فحسب، وإنما ملاذ أيضاً لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين في تركيا والنازحين في المخيمات على حد سواء، فضلاً عن تجريف العنصر البشري لملحقات حزب العمال الكردستاني (ب ك ك)، هذا التجريف الذي ينطوي على قيمة رمزية هامة بالنسبة لصانع القرار التركي وللشارع التركي الذي مهما بدا مهدداً بأزمات اقتصادية أو عواصف سياسية فإن نبرة الحرب ضد (ب ك ك) كفيلة بإعادة توحيده.

لئن كانت التحضيرات العسكرية تشير إلى أن معركة تل رفعت سوف تكون أولوية، إلا أن هذا لا يعني أن المعركة سوف تنحصر في هذا الحيز فحسب، بل إن تحضيرات مماثلة ربما لم تحظَ بزخم إعلامي، وقد يكون هذا مقصوداً من جانب أنقرة، ما تزال هي الأخرى قائمة ومتوقعة باتجاهات أخرى، وإن شئنا التحديد يمكن القول إن مدينة منبج قد تكون المرحلة الثانية من العملية العسكرية، ولئن كان صحيحاً أن الموقف الأميركي الرسمي ما يزال رافضاً لمسعى أنقرة، إلا أن هذا الرفض ربما لا يرقى في الوقت الراهن إلى أن يتحول إلى ممانعة أميركية عسكرية لمساعي أنقرة، ولعل ما يعزز هذا الاعتقاد (بعيداً عن التجاذبات والمصالح بين البلدين)، هو النزوع الشديد لدى قسد نحو التنسيق بل ربما الاستغاثة والاستنجاد بقوات نظام الأسد، ولعل التصريحات التي أدلى بها يوم الثلاثاء الفائت الناطق الرسمي باسم قوات سوريا الديمقراطية فرهاد شامي، والتي تؤكد الانتهاء من عملية التنسيق التام بل والاتفاق على التصدي المشترك مع قوات النظام للعملية العسكرية التركية، يضاف إلى ذلك مجمل التعزيزات العسكرية التي يقوم بها جيش النظام من خلال إرساله لـ 500 من جنوده عبر مدينة منبج إلى مدينتي عين العرب وعين عيسى، فضلاً عن أنباء يتم تداولها عن نية مشتركة لقسد والنظام معاً لمهاجمة مدينة الباب واحتلالها كإجراء  دفاعي.

ربما كانت مجمل هذه التنسيقات العسكرية بين قسد والنظام تؤكد أن الجانب الأميركي لن يكون شريكاً عسكرياً لقسد حيال أي مواجهة مرتقبة مع تركيا ولن يؤمن أي حماية لها.

الصراع بين الأطراف الدولية والمحلية على الجغرافيا السورية إنما هو قائم على مبدأ وضع اليد وحيازة الأرض أولاً، وليس محكوماً بتوافقات ثابتة لا تتغير، ذلك أن مجمل التخوم العازلة بين الأطراف المتصارعة هي تخوم قتالية تخضع لموازين القوى على الأرض أكثر مما تخضع لأي منطق آخر، ومن هنا يمكن للمعركة المرتقبة والتي صرح الرئيس التركي أنها ستكون أكبر من سابقاتها، أن يكون لها امتدادات ووجهات أخرى تتجاوز تل رفعت ومنبج.