هزيمة داعش... عسكرية فقط

2019.03.28 | 08:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في الثالث والعشرين من هذا الشهر، أعلنت الولايات المتحدة، وتبعتها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) انتهاءَ "خلافة" داعش، بعد القضاء على آخر ما تبقى لها من مواقع في شمال شرق سوريا، وبالتالي ستبدأ الولايات المتحدة سحب قواتها من سوريا، كلياً أو جزئياً، لكونها حققت المهمة التي أتت من أجلها تنفيذاً لقرار ترمب الذي أعلنه منذ أشهر. ومن شأن ذلك أن يُعاد النظر في التحالف مع قوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية، الذي قام على أساس محاربة داعش، وهو التحالف الذي شبهه أحد المسؤولين الأميركيين، عند سؤاله عن الوقت الذي ستعترف فيه الولايات المتحدة بروج آفا، بالعلاقة مع صديقة أو عشيقة، بمعنى ليس تحالفاً دائماً، وإنما هو مرتبط بغاية وزمن محددين. (تقرير مجموعة الأزمات الدولية في 4 أيار 2017/ هامش رقم 46)

لا أحد يمكنه نكران وقوع الهزيمة العسكرية التي لحقت بداعش، سواء في سوريا أو في العراق من قبلها، فدمار المدينتين (الموصل والرقة) خير شاهد على حجم هذا "الانتصار"

لا أحد يمكنه نكران وقوع الهزيمة العسكرية التي لحقت بداعش، سواء في سوريا أو في العراق من قبلها، فدمار المدينتين (الموصل والرقة) خير شاهد على حجم هذا "الانتصار"، الذي سيعيد لا محالة ظهور داعش، أو أي صيغة من التنظيمات الجهادية الإسلامية، لكن بصيغة أكثر تطرفاً وعنفاً.

ما لم ندركه جيداً، أو ما تغافلنا عنه، حين روّجنا لنظرة الغرب عن نشوء داعش وغيرها من التنظيمات الجهادية التكفيرية في المنطقة، هو أن تلك التنظيمات تكفيرية تعادي الغرب والأنظمة العلمانية، لسبب عَقدي، مع إهمال كامل ومقصود لدور العوامل الأخرى في نشوئها، وذلك في محاولة لتدمير صورة الإسلام والمسلمين، وإعادة تكوينها بما يتلاءم مع القيم الغربية المسيحية والمتفوقة قومياً التي أسس لها المحافظون الجدد في عهد بوش. هذا السلوك أسس لنشوء التطرف الجهادي، فكان نظيراً للتطرف الغربي، حيث تشارك الطرفان (بوش وابن لادن) في تقسيم العالم إلى فسطاطين.

على هذه الأرضية نشأت الدولة الإسلامية في العراق أولاً كظاهرة عراقية تماماً، وكانت محدودة بجغرافيته، كنتاج للظروف السياسية والاقتصادية التي حكمت العراق، بعد احتلاله من الولايات المتحدة عام 2003، فما قام به الحاكم العسكري بريمر، في موقف عدائي تجاه السنة العرب -تمثل بحل الجيش العراقي وحزب البعث وكأنهما من ممتلكات صدام حسين- خلقَ جيشاً من العاطلين عن العمل، ودفعهم إلى مزيد من التهميش والبؤس، ومما زاد الطينَ بلةً الدستورُ القائم على "المكونات" الذي كتبه مع شركائه، بما يحمله من حقد وتهميش على العرب السنة، وهم الشيعة التابعون لولي الفقيه، ومن جهة ثانية الأحزاب الكردية الذين يحمّلون العرب مسؤولية هدر حقوقهم والوقوف ضد قيام كردستان؛ فأنتج حكومة طائفية وعنصرية تجاه العرب السنة، وقد أسس ذلك بقوة لنشوء تلك التنظيمات، وما كانت ممارسات المالكي الطائفية البغيضة سوى الشرارة التي آذنت بولادة تلك التنظيمات، ومنها الدولة الإسلامية في العراق عام 2006 بزعامة أبو أيوب المصري.

لم يكن النظام في سوريا أقلّ طائفية من نظام العراق، فسياساته قائمة على التمييز الطائفي تجاه السنة، وموزعة بدرجات أقل تجاه البقية ممن لا يوالونه. ومع انطلاق الثورة في سوريا وانتزاع الجيش الحر مناطق من سيطرة النظام، وجدت الدولة الإسلامية فرصتها في دخول تلك المناطق، بحجة "نصرة أهل السنة" و"إقامة شرع الله"، مستغلة المناخ الإسلامي لدى غالبية المقاتلين، والتوتر الحاصل تجاه النظام لما يقوم به من بطش وقصف وتدمير، ناهيك عن الصدوع الطائفية القائمة التي تفاقمت حينذاك، فأعلنت عن نفسها موسعة جغرافية نشاطها لتشمل سوريا بعد العراق، وأطلقت على نفسها اسم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" عام 2013 بزعامة "أبو بكر البغدادي"، واختُزل اسمها بـ "داعش".

إن المراقب لممارسات الأنظمة الطائفية في العراق، بعد الاحتلال والدعم الأميركي لها، سيكون أحمقَ، لا بل مغفلاً، إذا تفاجأ بظهور داعش

بالطبع، في ظروف تسودها الفوضى والاضطرابات، يسهل على المخابرات -في كل دول العالم- النشاط والاستثمار بالقوى والتنظيمات المسلحة، ومنها داعش كما غيرها من التنظيمات والفصائل، لدرجة أن سوريا أصبحت ساحة لتصارع العديد من دول العالم ومخابراتها، لكن هذا لا يعني أن داعش هي صنيعة المخابرات الدولية، والمنطق يقول إن المخابرات استثمرت في داعش وفي غيرها، إذ ليس من المنطقي أن يُتّهم تنظيم أو دولة، إذا اخترقه جهاز مخابرات آخر، بأنه تابع له، وإلا؛ كانت بريطانيا عميلة للمخابرات السوفياتية (ك. ج. ب) أيام زمان، وإيران عميلة للمخابرات المركزية الأميركية (سي آي. إيه)  وغيرها.

إن وقوف الغرب -على مدى عقود- إلى جانب الأنظمة الاستبدادية في العالم، وخاصة في منطقتنا العربية، جمهورياتها وملكياتها، ناهيك عن وقوفه ضد قضية الشعب الفلسطيني وهي القضية المركزية لدى العرب، ودعمه لإسرائيل في قتل وطرد الفلسطينين، وسلب الأراضي بالقوة، وسعيه الدائم لفرض نموذج من الإسلام كما يفهمه ويخدم مصالحه، إسلام "عصري" وبالقوة، والتهميش الكبير الذي يعاني منه المهاجرون في أوروبا، والسكوت عن جميع انتهاكات هذه الأنظمة المارقة، كل ذلك شكّل الأسباب الرئيسية في نشوء داعش.

إن المراقب لممارسات الأنظمة الطائفية في العراق، بعد الاحتلال والدعم الأميركي لها، سيكون أحمقَ، لا بل مغفلاً، إذا تفاجأ بظهور داعش، فالأمر غير الطبيعي هو ألا تظهر مثل تلك التنظيمات المتطرفة، بعد اجتماع كل العناصر المكونة. لقد كان ظهور داعش رداً طبيعياً تمامًا، لكنه بالاتجاه الخاطئ، رداً على عمليات سجن أبو غريب والفلوجة والأنبار وتكريت، وعلى طرد الأكاديميين وتسريح الضباط المهنيين، وغيرها من امتيازات الحقد والكره الشيعي الإيراني تجاه السنة العرب، وينطبق الأمر ذاته على سلوك النظام الطائفي في سوريا الذي حولها إلى مسالخ ومقاصل بشرية، ابتداء من الثمانينيات وليس انتهاء بسجن صيدنايا، حتى اليوم.

لربما هُزمت داعش، ويمكن لغيرها من التنظيمات المتطرفة أن تُهزم، فالقوة النارية المبيدة والتدمير الهائل كانا كافيين لهزم أي قوة عسكرية، وتدمير المدينتين (الرقة والموصل) كاف وشاهد، لكن مع استمرار الغرب في مساندة النظام التابع لولي الفقيه في العراق، ومحاولته إعادة تأهيل نظام الأسد الذي قتل حوالي مليون إنسان، وشرد قسراً حوالي عشرة ملايين، وبنى الأفران لحرق المعتقلين، ودعم نظام السيسي المسخ في مصر، ستكون كلها عوامل تعيد بعث داعش أو غيرها.

الخلاص من هذه التنظيمات المتطرفة لا يكون عسكرياً فقط، وهو ضروري وأوليّ، وإنما بالأساس من خلال رفع المظالم عن هذه الشعوب، والمتمثلة بالأنظمة الدكتاتورية التي يدعمها الغرب، وفسح الطريق أما شعوب المنطقة لتقرير مصيرها واختيار حكامها وشكل الحكم الذي ترتضيه، والعمل على تحقيق العدالة للمظلومين لا الانتقام الذي يؤسسون له، ومحاسبة المجرمين الكبار، وإذا لم يكن ذلك؛ فنحن على موعد آخر مع داعش أو أخواتها.