هزوان الوز وفضيحة نظام فاسد يتآكل

2019.09.19 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أثارت فضيحة وزير التربية السابق في النظام السوري حفيظة المواطنين في الداخل وخصوصاً هؤلاء المعروفين بموالاتهم الخالصة للنظام، فأخذوا بالحديث عنها، وعن ظاهرة الفساد عموماً.. وكأنَّ أمر الفساد جديد عليهم، وهم الذين كانوا قد اتهموا بالخيانة والعمالة للأجنبي.

ملايين السوريين الذين نزلوا إلى الشارع باحثين عن خلاص للشعب السوري وجدوه في كلمة مفتاحية واحدة هي الحرية التي من خلالها فقط يمكن استئصال مفردات الحال المزرية التي شملت مفاصل البلاد السورية كلها حيث جرثومة الفساد ترتع في المال العام، لتسبب خراب ما سمي بالقطاع العام، ووقف التنمية ونشر البطالة وخصوصاً بين الخريجين، ولتحدث هوة عميقة بين الريف والمدينة، ولتحيط المدن الكبرى بعشوائيات الفقر وتراكم الصبر والغضب..!

ملايين السوريين الذين نزلوا إلى الشارع باحثين عن خلاص للشعب السوري وجدوه في كلمة مفتاحية واحدة هي الحرية

وما كان لذلك كله أن يحصل لولا شدة القمع، وتوغل الأمن، وغياب القانون وسريان المحسوبيات، وإحلال التمييز بين المواطنين وغير ذلك مما جعل سوريا في أواخر بلدان العالم تنمية ومن أوائلها تخلفاً وفساداً.. ودفع بالتالي، هؤلاء الشباب للنزول إلى الشارع متأثرين بنسائم الربيع العربي عام 2011 مطالبين بتصحيح الأوضاع الداخلية المزرية، فتصدى لهم حينئذ جند جيش النظام "البواسل" ليحصدوا مئات المدنيين السلميين الأبرياء في عمليات إرهابية مرعبة شهدتها مدن حمص وحماة واللاذقية ودير الزور والرقة وإدلب تلتها عدة مجازر أخذت أبعاداً طائفية نفذتها مجموعات مأجورة عرفت حينذاك باللجان الشعبية (الشبيحة).

 ليفتح بذلك الباب واسعاً على التطرف بأشكاله كافة، وكذلك للتدخل الخارجي العشوائي، ولتأتي حينذاك البراميل المتفجرة، وما استحدث من أسلحة روسية وإيرانية لتصب حممها على الشعب السوري وما بناه خلال عقود طويلة، وليبدأ التدمير المبرمج لا للبنى التحتية فحسب، بل للبنى الاقتصادية المتناثرة في المدن الكبرى وأريافها أو لتفكيكها وبيعها خردة بواسطة "المعفشين" أو "المجولين" وربما وقعت مطابع دار البعث الحديثة التي كانت تغطي مثل هذه الخدمات في واحدة من الحالات تلك ما دفع "السيد الوزير" هزوان الوز إلى طباعة كتب التربية في دولة عربية مجاورة، وليأخذ الرجل عمولته كما هو معهود، ومعمول به في دولة الاستبداد والتخلف والفساد!

وللحقيقة، إنها عمولة مغرية، ويسيل لها اللعاب بحسب ما تناولتها المواقع الإلكترونية، وصفحات التواصل الاجتماعي مع صور لقرار الحجز الاحتياطي على أموال "السيد الوزير" ومن يلوذ به من الأقرباء، ولينتشر الخبر على الملأ مثيراً بحجم المبلغ الهائل 350 مليار ليرة سوريا، تلك الدهشة العظيمة، وبخاصة في وقت يعيش خلاله السوريون أقسى أيام عرفتها سوريا..!

 لكن اللافت والمثير للدهشة حقاً أن بعض هؤلاء الموالين لا يزالون يجهلون حقيقة ما يجري في سوريا، إذ كيف تحصل مثل هذه السرقات؟! ويجهلون، كذلك، أنه لا يمكن لشخص مثل "الوز" أن يقوم بهذه السرقة ما لم يكن له شريك أو شركاء يعملون على تغطية سرقته..! وأن خللاً ما قد حدث فوقعت الفأس في رأس "الوز" الذي كان قد بدأ حياته بسرقة نص أدبي، وفضحه أحدهم بنشره على صفحات جريدة اتحاد الكتاب العرب الذي هو عضو فيه الآن..! ثم كيف لا يدرك هؤلاء الموالون (وبعضهم مخبرون) حقيقة أنَّ من عيَّن "الوز" مديراً لتربية دمشق ثم وزيراً للتربية، هم أجهزة الأمن الذين يعرفون عنه الصغيرة والكبيرة، ويعرفون أن حصتهم سوف تأتيهم ممسكة معطرة..!

إن المشكلة قائمة في بنية النظام الاستبدادي فلا يمكن للفساد أن ينمو في دولة رئيسها نزيه يعيش على راتبه هذه حقيقة يعرفها كل من يملك تفكيراً سليماً، ولعل الاستشهاد هنا بالرئيس الماليزي الذي كان قد نقل بلاده نقلة نوعية خلال عشرين عاماً واستقال مطمئناً إذ وضع بلاده على سكة السلامة.. لكن مواطنيه استنجدوا به حين مست الضرورة، فلبَّى دعوتهم، وهو في عقد التسعينيات من العمر، ليعيد الأمور ثانية إلى نصابها، وليسترد الكثير من الأموال المنهوبة..!

وعودة إلى احتجاج الموالين نجد أطرف ما جاء من تعليقات على سرقة "هزوان الوز" ما كتبه أحدهم على فيسبوك:

 "السيد الرئيس والقيادة والجيش والشعب يتصدون للمؤامرة الكونية، ويقاومون الإرهاب والعدوان والحصار" وللحقيقة، كان بإمكاني أن أقرأ هذا الكلام على سبيل التهكم والسخرية السوداء، لولا أن الكاتب تابع حديثه بكل جدية عن سوء الحال التي وجد أسبابها في "الوزراء والمدراء والأحزاب وبعض ممثلي الشعب" ونعتهم "بالغفلة والتقصير في أداء واجبهم الوطني في إدارة الحياة الاجتماعية والاقتصادية وانتشار الفساد" .

لن أناقش ذلك فكلنا يعرف أن السوريين ليسوا سذَّجاً ولا بسطاء، وكذلك لن أدخل بسرد تفاصيل ثروات الأسرة الحاكمة في سوريا، فعشرات الكتب، والمئات من الصحف ومراكز الأبحاث المعنية تغص بالمعلومات عن حاكِمَيْ سوريا على مدى نصف قرن..! وسأكتفي بإشارة بسيطة إلى تقرير نشرته صحيفة "هافنغتون بوست" الأميركية عن أغنى قادة دول العالم من الذين لا يزالون على كراسي الحكم في بلدانهم، وضمت القمة عدداً من الرؤساء والملوك والأمراء، من بينهم رأس النظام بشار الأسد، واستندت الصحيفة إلى أرقام وإحصاءات نشرتها وكالة "بلومبرغ" للبيانات المالية ومجلة "فوربس" الشهيرة، اللتان اعتمدتا على الممتلكات الموثقة لهذه الشخصيات بمستندات ملكية معترف بها. صحيح أنَّ ملكية بشار الأسد متواضعة بالنسبة لغيره إذ هي 500 مليون دولار فقط ما يعني أنها تقارب ما هبشه "الوز" دفعة واحدة.

إن نقطة ارتكاز دائرة الفساد السورية هي رأس النظام، ومحيطها الأول هم الأقربون، وتستمر الدوائر في ازدياد ولا تنتهي

لكنك إذا جمعت ثروات العائلة واللائذين بها ستجد أن الرقم يقارب ميزانيات سوريا على مدى تلك السنين، وستكتشف أسباب فشل التنمية،  ومن كان ولا زال وراء المآسي كلِّها!

إن نقطة ارتكاز دائرة الفساد السورية هي رأس النظام، ومحيطها الأول هم الأقربون، وتستمر الدوائر في ازدياد ولا تنتهي إلا عند صغار المنتفعين بالفتات.. هؤلاء الذين كان يتسلى بهم ناجي العطري وغيره من رؤساء الوزراء السابقين كلما خطر ببالهم محاربة الفساد.

إن نقطة الارتكاز تلك هي السبب فيما وصلت إليه البلاد وهي التي قادتها إلى التدمير والهلاك والمصير المجهول منذ أن فتح جيش السلطة نيرانه على الشعب حماية للمال المنهوب وفق شعاري "الأسد للأبد" و"الأسد أو نحرق البلد" وقد احترقت البلد شعباً ومقدرات إذ دمرت بنيتها التحتية من ماء وكهرباء ومواصلات واتصالات وهُجِّر شعبُها بعد أن قتل مئات الألوف منه وذاق من تبقى أهوال السجون والمعتقلات ومرارة العيش وأحزان الفقد.. الأمر الذي جعل إسرائيل تطالب ببقاء الأسد ناهيكم بالمتدخلين الجدد وما كان لذلك كله أن يحصل لولا تحويل الدولة أو الوطن إلى مزرعة يملكها فرد.. فللدولة تعريف وللوطن مفهوم يتلخصان فيما أعلنه المحتجون السوريون يوم انطلقوا في شوارع المدن السورية كافة يهتفون للحرية التي تعني فيما تعنيه حرية السياسة وأحزابها ووسائل إعلامها.. كما تعني فصل السلطات، واستقلال القضاء، وتداول السلطة وفق انتخابات ديمقراطية تستند إلى دستور يحقق المواطنة الفعلية التي تقوم على المساواة بين السوريين كافة ودونما أي تمييز مهما كانت دوافعه ومسوغاته. فلا شيء غير ذلك يخلِّص البلاد من مأساتها، ويبلسم جراحها، ويأخذ بيدها نحو تنمية دائمة تزهر أمناً وسلاماً ودخولاً في حضارة العصر.