icon
التغطية الحية

هجرة السوريين إلى تفاصيلهم الصغيرة.. حين يصبح الحنين معركة لإعادة بناء الهوية 

2025.05.08 | 11:54 دمشق

جوقة الغاردينيا المكونة من نساء فقط يقدمون عروضا في بيت فرحي التاريخي في دمشق، سوريا، في 28 نيسان/أبريل 2025.
جوقة الغاردينيا يقدمون عروضا في بيت فرحي التاريخي في دمشق، سوريا، في 28 نيسان 2025. afp
تلفزيون سوريا ـ مالك الحافظ
+A
حجم الخط
-A
إظهار الملخص
- الحنين كقوة مزدوجة: يظهر الحنين في الأزمات كقوة تحافظ على الانتماء وتقاوم التفكك، لكنه قد يعيق السرديات الجديدة. في سوريا، يسعى الحنين لاستعادة التوازن لكنه قد يحبس الذات في معاني مغلقة.

- الحنين والهوية الذاتية: يلجأ الأفراد في أوقات عدم اليقين إلى الحنين لتثبيت هويتهم، كما في التجربة السورية حيث يتسرب الحنين إلى الحياة اليومية، مما يعكس رغبة في استعادة التماسك الداخلي.

- الحنين كأداة للإبداع: يمكن للحنين أن يتحول إلى أداة للإبداع الثقافي، كما في تجارب ألمانيا ورواندا. في سوريا، الحاجة ملحة لتطوير خطاب وجداني جديد يحول الحنين إلى دافع للإبداع الجماعي.

لا تظهر قوة الحنين بوضوح كما تظهر حين تتعثر المجتمعات في محطاتها التاريخية الأكثر إيلاماً. وعبر كل محاولة لإعادة بناء الذات الفردية والجماعية، يتمسّك الناس بأطياف ماضٍ يبدو أكثر تماسكاً من حاضرهم المرتبك. المجتمعات التي اختبرت أزمات بنيوية وتحولات جذرية تعرف هذا المسار جيداً، حيث يصبح الحنين جزءاً من نسيج الهوية.
اليوم وبعد المرور عبر نفق تاريخي بالغ القسوة في سوريا، يتبدّى الحنين كطاقة مزدوجة؛ فهو من جهة يحفظ بقايا الانتماء ويؤسس لمقاومة نفسية ضد التفكك، ومن جهة أخرى قد يتحوّل إلى شبكة خفية تشدّ الأفراد والمجتمع إلى الوراء، وتعرقل ولادة سرديات جديدة قادرة على عبور المستقبل.

من زاوية سوسيولوجية موازية، يطرح أنتوني غيدنز، في كتابه "الحداثة والهوية الذاتية"، تصوره للهوية الذاتية بوصفها مشروعاً دائماً لإعادة ترتيب الخبرات الحياتية تحت ضغط الأزمنة غير المستقرة. وفقاً لغيدنز، يلجأ الأفراد حين تتعاظم حالة عدم اليقين، إلى بناء "سرديات شخصية" تساعدهم على تثبيت صورتهم عن أنفسهم وتُجسّر الفجوة بين ما كانوا عليه وما أصبحوا فيه. من هذا المنظور يتحوّل الحنين إلى أحد أبرز استراتيجيات مواجهة التشظي، إذ يحمل في طياته وعداً باستعادة توازن مفقود، لكنه يحمل أيضاً خطر الانحباس داخل شبكات من المعاني المغلقة التي تعيق إعادة إنتاج الذات.

الحنين كحالة جدلية بين الترميم والانكماش

تضع سفيتلانا بويوم في كتابها "الحنين: سرديات عن الحداثة"، تصوراً دقيقاً للحنين، مقترحةً أنه تجربة مركّبة تتأرجح بين التوق إلى استعادة العالم المفقود والرغبة في مساءلة هذا العالم بوعي نقدي. بويوم تقرأ النوستالجيا كطاقة مشحونة بالتناقض؛ فهي من جهة تسعى إلى إحياء صورة الماضي بكل تفاصيله، بما فيه من جمال وقيود، ومن جهة أخرى تفتح الباب أمام قراءة تأملية للماضي بوصفه مادة قابلة للتفكيك وإعادة التأويل.
هذه الجدلية تنعكس بوضوح في التجربة السورية الراهنة حيث يتسرّب الحنين إلى الأحاديث اليومية، وإلى الصور التي تعاد مشاركتها، وإلى الأغاني التي تواصل العيش رغم تبدل الأزمنة، وحتى إلى أشكال التشبث بما تبقى من لغة عاطفية تربط الأفراد بمرحلة لم تعد صالحة لتكون مرجعية مطلقة.

السؤال الحاسم هنا لم يعد متعلقاً بمجرد الحاجة إلى الحنين، وإنما بقدرتنا على إعادة هندسته بحيث يصبح أداة إعادة بناء وجداني، لا مجرد مرآة تُجمّد المخيلة. التجربة السورية تكشف أن الحنين إذا تُرك من دون مساءلة نقدية واعية قد يتحوّل إلى قيد نفسي يُبقي الجماعة أسيرة ماضٍ فقد صلاحيته، في حين التحدي الحقيقي يكمن في تحويله إلى طاقة مرنة تعيد ترتيب الشعور الجمعي من دون أن تشلّه.

حين نتحدث عن الحنين، يخطر في البال فوراً حنين إلى أماكن أو أحداث أو سياقات خارجية، غير أن الشكل الأعمق لهذا الشعور يتجاوز المحطات الجغرافية والتواريخ المألوفة، ليضرب جذوره في أعماق الذات، كما يطرحه موريس ميرلو-بونتي في فلسفته عن "الذات المجسّدة"؛ خاصة في كتابه "فينومينولوجيا الإدراك"، حيث يشير إلى أن أكبر فقدان يتعرض له الإنسان لا يرتبط فقط بالمكان أو الأشخاص، بقدر ما يتمثل في خسارة الإحساس المباشر بالذات المتماسكة التي تعيش وجودها بثقة في العالم.
تبدو هذه الرؤية أكثر إلحاحاً عند السوريين الذين اجتازوا تجربة الانهيار الكلي فهم يحنّون إلى نسخة أعمق من أنفسهم، إلى تلك اللحظة التي كان فيها الشعور بالانتماء ثابتاً وغير مثقل بالخذلان أو الريبة.

هذا الحنين إلى الذات لا يُختزل فقط في الرغبة باستعادة الماضي بحد ذاته، فالحنين يتجلى كبحث مضنٍ عن تماسك داخلي ضاع تحت وطأة الانهيارات. لقد كانت الخسارات الجماعية أكثر من مجرد فقدان للبنى المادية أو الرموز الوطنية؛ وقد أصابت في العمق مفهوم "الذات الآمنة"، تلك الذات التي عاشت ذات يوم بإحساس طبيعي بالثبات والاستقرار. السوريون اليوم يجرّون خلفهم شعوراً دائماً بالاغتراب النفسي، وهو ما يتقاطع مع تحليل كينيث غيرغن في مفهوم "الذات المتشظية"، حيث يؤكد أن الأفراد عندما يعيشون تحت ضغط التحولات العنيفة والاضطرابات المستمرة، يفقدون إدراكهم المتماسك لهويتهم، ويصبحون أسرى لشعور دائم بالارتباك والحاجة إلى إعادة تشكيل ذواتهم. من هذا المنظور، يتحوّل الحنين إلى نوع من المقاومة الداخلية؛ إنه محاولة مضنية لإعادة لملمة صورة الذات المتصدعة، وهو مسعى عميق للعثور على نقطة ارتكاز داخلية تتيح استمرار العيش رغم الخراب المحيط.

السوري و"النوستالجيا".. بين الخوف والرغبة

"النوستالجيا" ليست حالة شعورية فردية يمكن التحكم بها بقرار بسيط؛ إنها جزء من البنية العميقة للوعي الجمعي، خاصة في المجتمعات التي اختبرت هزات وجودية كبرى. السوري اليوم، في محاولاته لاستعادة صوره السابقة، لا يطلب مجرد عودة إلى تفاصيل مادية أو صور فوتوغرافية محفوظة، بل يسعى بوعي أو بلا وعي إلى إعادة تثبيت معنى الذات الذي تزعزع تحت وطأة الانكسارات المتكررة.
كما يشير تسفيتان تودوروف في تحليله للعلاقة بين الذاكرة والهوية، من خلال كتابه "ذاكرة الشر إغواء الخير"، يصبح استدعاء الماضي أداة حيوية عندما يفقد الحاضر صلابته، ويبدأ بالتآكل أمام عيون من يعيشونه. ضمن هذا السياق، يمكن استدعاء تجربة كوريا الجنوبية بعد الحرب، حين استخدم المجتمع سرديات الماضي كمحفز لنهضة اقتصادية واجتماعية فتحت الباب أمام ما سُمّي لاحقاً بـ"المعجزة الكورية". الحنين هنا يُمارَس كحاجة ملحّة لاستعادة نقطة توازن داخلية تُعيد تعريف الذات في عالم تبددت معالمه.

وسط هذه المعادلة المعقدة، يتحول الحنين إلى ساحة صراع نفسي يتداخل فيها خوف دفين من فقدان ما تبقى من هوية، مع رغبة دفينة أيضاً في مغادرة دائرة الألم والانبعاث من جديد. السوريون الذين عايشوا هذا الانفجار الاجتماعي لا يعيشون الحنين كترف وجداني، وإنما كجزء من معركة يومية ضد التشظي الداخلي؛ معركة تبحث عن إعادة ترميم الذات الجمعية، من دون الوقوع في فخ استحضار "عالم مكتمل" لم يعد ممكناُ استعادته. هذه الإشكالية تعيدنا إلى ما يسميه يان آسمن "وظيفة الذاكرة التأسيسية"، فبالإضافة إلى أن الذكريات الجماعية تصبح صوراً عن الماضي، فإنها تكون أيضاً ركائز تُبنى عليها الهوية الحاضرة.
غير أن خطورة هذه العملية تكمن في اللحظة التي تتحول فيها الذاكرة إلى حَجر ثقيل يعيق الحركة، حين يصبح الحنين مطلباً قاسياً لاسترجاع عالم مثالي مفقود، بدلاً من أن يكون أداة حية تتيح إعادة تخيّل الذات في ضوء المتغيرات. في التجربة السورية تحديداً، تتقاطع هذه الدينامية مع قلق عميق حول كيفية الحفاظ على استمرارية الإحساس بالانتماء من دون أن نظل أسرى صور لم تعد تعبّر عن الواقع، وكيف يمكن للحنين أن يظل مصدر إلهام وتجدد بدلاً من أن يتحوّل إلى تميمة تحبسنا في زمن انتهى فعلياً؟.

غالباً ما نربط الحنين بالأحداث الكبرى مثل لحظات الفقد، المشاهد المصيرية، والأصوات التي دوّت في الذاكرة الجمعية، لكن التجارب الحسية اليومية تُظهر أن أقوى أشكال الحنين ترتبط بما هو عادي وبسيط؛ التفاصيل الصغيرة التي شكّلت من دون أن نشعر شبكة الأمان الشعوري التي استندنا إليها في حياتنا.
السوري الذي يعيش اليوم في منافٍ بعيدة أو في مدن غريبة قد لا يتحدث عن خسارة كبرى بقدر ما يتهدّج صوته حين يتذكر لحظات بدت في وقتها عابرة؛ رائحة الخبز المخبوز في الصباح الباكر، الحوارات العفوية التي كانت تدور على أرصفة الحارات، أو حتى أصوات الباعة التي كانت تشكّل إيقاعاً مألوفاً للنهار. هذه الذكريات، التي تبدو على السطح هامشية، تحمل في عمقها طبقات معقدة من الأمان والانتماء.

ما يحتاجه السوري اليوم ليس أن يقطع مع الحنين، وإنما أن يعيد تشكيله كأداة إنتاج وجداني. "النوستالجيا" يمكنها أن تتحوّل من عائق إلى جسر حين تدخل دائرة الإبداع الثقافي، حين تصبح كتابة، أو أغنية، أو صورة فوتوغرافية، أو حتى مجرد جلسة حوارية تسمح بإعادة تفسير الماضي من دون تقديسه.

في هذا السياق، تبرز أفكار مارك أوجيه حول "اللامكان" كبديل تحليلي مهم، حيث يشير في كتابه "اللامكان: مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة الفائقة"؛ إلى أن الإنسان لا يتعلّق بالفضاء بصفته مجرّد حيّز فيزيائي، وإنما بوصفه بيئة شعورية مشبّعة بالمعنى والذاكرة. وعندما يُنتزع الفرد من هذه البيئات المحمّلة بالدلالات، يجد نفسه في فضاءات جديدة تفتقر إلى هذا الغنى الحسي والوجداني، ما يجعله عرضة لما يسميه أوجيه "التيه الوجداني"، حيث يصبح الحنين أشبه بمحاولة مستميتة لاستعادة ما كان مألوفًا. هذا بالضبط ما يعانيه كثير من السوريين اليوم، فأزمتهم ليست فقط أزمة فقد المكان، بقدر ما تعبر أزمتهم عن فقد النسيج الحسي الذي كان يربطهم بكل ما هو ثابت وعادي في حياتهم.

يتحول الحنين هنا إلى أكثر من مجرد رغبة في العودة إلى البيت أو المدينة؛ إنه تعبير عن جوع عميق لاستعادة الإحساس بالعادي كمرساة وجودية، وفي حين يُعاد تشكيل المكان الجديد حولهم، غالباً ما يظل السوريون يمارسون طقوساً يومية، كطهو وصفات تقليدية، أو إعادة الاستماع للأغاني القديمة، أو حتى افتعال جلسات قهوة تشبه تلك التي كانوا يعيشونها؛ كاستراتيجيات غير واعية لإعادة إنتاج "مكان داخلي" يذكّرهم بأنفسهم.

هذه الظاهرة تكشف أن الحنين، في جوهره عملية بناء مستمر لمعنى الوجود، إنه محاولة لترميم الشعور بالذات من خلال استحضار التفاصيل الدقيقة التي صنعت صورة الحياة يوماً ما، وحين نفتقد هذه الصورة تصبح كل محاولة للانخراط في الحاضر ناقصة، كمن يتحسس جداراً في عتمة لا تنتهي بحثًا عن مدخل إلى الذات التي تبددت.

"النوستالجيا" الإبداعية.. كيف نحول الألم إلى مورد؟

ما يحتاجه السوري اليوم ليس أن يقطع مع الحنين، وإنما أن يعيد تشكيله كأداة إنتاج وجداني. "النوستالجيا" يمكنها أن تتحوّل من عائق إلى جسر حين تدخل دائرة الإبداع الثقافي، حين تصبح كتابة، أو أغنية، أو صورة فوتوغرافية، أو حتى مجرد جلسة حوارية تسمح بإعادة تفسير الماضي من دون تقديسه.

هنا يلتقي الحنين مع مفهوم "الذاكرة الإبداعية" عند أليدا أسمان، التي ترى أن استعادة الماضي لا تعني فقط الحفاظ على صورته، بل إعادة تأويله بحيث يمدّنا بطاقة للحاضر والمستقبل.

تجارب أمم أخرى، مثل ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو رواندا بعد الإبادة الجماعية، تبرهن أن الإبداع هو الطريقة الوحيدة لتحرير الذاكرة من جمودها، ولتحويل الحنين إلى مصدر حياة. كما يمكن هنا أيضاً استدعاء تجربة البوسنة والهرسك، التي تحوّل فيها الحنين الجريح بعد الحرب الأهلية إلى تيارات فنية وأدبية خلقت مساحات جديدة لفهم الذات الوطنية.

يقدّم إرنست بلوخ فكرة جذرية في كتابه "مبدأ الأمل"، حين يقترح أن الحنين ليس دائماً حركة رجعية إلى الوراء، بل يمكن أن يكون توقاً إلى شيء لم يتحقق بعد.
قد يكون الحنين الأكثر قوة عند السوريين هو ذلك الحنين لصورة الوطن الذي حلمنا به ولم يتحقق حتى الآن. إنه حنين مستقبلي، يملأ الخيال بصورة ما يجب أن يكون، لا ما كان فقط، هذا النوع من الحنين يحمل في طياته دينامية خاصة؛ فهو لا يكتفي باستعادة ماضٍ مفقود، بل يصرّ على اختراع المستقبل بوصفه "الوطن المؤجل".

بصورة موازية، يمكن استدعاء ما يسميه جاك دريدا بـ"أشباح المستقبل"، حيث يعيش المجتمع حالة تشظٍ بين فقدان الماضي وفقدان الأمل في المستقبل. الحنين هنا يصبح حنيناً معكوساً؛ ليس إلى ما كان موجوداً، فقط إلى ما لم يتحقق. إنه حنين "يوتوبيا لم تولد"، يترك أثره العميق في الشعور الجمعي كسؤال دائم، ماذا لو كنا استطعنا أن نخلق وطناً مختلفاً.

في سوريا اليوم، تبدو الحاجة ملحة لتطوير خطاب وجداني جديد يتعامل مع "النوستالجيا" بذكاء. كيف؟ يكون ذلك عبر إدراك أن الماضي الذي فقدناه لا يمكن استعادته كصورة مطابقة، بل فقط كسؤال مفتوح يساعدنا على فهم ماذا نريد أن نكون الآن.

الحنين، إذن، هو استعادة الشعور بالانتماء الذي تحطم، وإذا تمكّنا من تحويل هذا الشعور إلى دافع للإبداع الجماعي، بدلاً من أن يكون شللاً في الوجدان، يمكننا أن نحفر مساراً جديداً لمجتمع يبحث عن ذاته وسط الركام.

كما كتب ممدوح عدوان ذات يوم: "علينا ألا نكتفي بأن نرث الخراب، بل أن نبتكر سبل النجاة". هذا هو التحدي الأكبر الآن؛ كيف نعيد تدوير الحنين إلى طاقة بناء.