
لم تعد ألمانيا تتصرف بكياسة مع روسيا، إذ خلال الأسابيع القليلة الماضية، ساعدت ألمانيا في إنقاذ أهم زعيم للمعارضة الروسية وهو أليكسي نافالني، واتهمت موسكو بتسميمه، وفرشت السجاد الأحمر لسفيتلانا تيخانوفسكيايا، زعيمة المعارضة البيلاروسية التي حاولت إسقاط أحد الأنظمة التابعة لروسيا، واتهمت البلاد بالتخطيط لجريمة على مستوى الدولة فوق الأراضي الألمانية. وإذا لم يكن كل هذا كافياً، سنزيد بأن ألمانيا تضغط من أجل فرض عقوبات على مسؤولين روس.
كل ذلك يبدو وكأنه يقترب من المواجهة، والقيام بخطوة حاسمة تبتعد من خلالها ألمانيا عن نهجها القديم الذي استمر لعقود، والذي قامت من خلاله بمغازلة روسيا والتقرب منها بلطف ضمن علاقة تعتبر منتجة بشكل أكبر، فهل انقلبت ألمانيا ضد روسيا؟ أم يجب علينا ألا نأخذ العداوة التي سادت خلال الأسابيع الماضية على محمل الجد كثيراً؟
إن النهج القديم الذي يعرف بالتغيير من خلال التقارب والذي تطور في ستينيات القرن المنصرم للتخفيف من التوترات التي خلفتها الحرب الباردة كان نهجاً مباشراً، وإذا كانت ألمانيا قد ساعدت في تحسين الاقتصاد وتطوير المجتمع المدني في روسيا، عندها لا بد لروسيا من أن تنتهج منهج الحداثة وأن تصبح ديمقراطية بشكل أكبر إلى جانب إظهارها للمزيد من التعاون. كما أن التقارب في العلاقات الاقتصادية قد يخفف من خطر وقوع أي نزاع مسلح ويمنح ألمانيا بعض النفوذ السياسي.
وقد استمرت تلك الاستراتيجية لعقود، ولكن منذ عام 2008، تنبأ وزير الخارجية فرانك فالتر شتاينمار الذي أصبح اليوم رئيس ألمانيا بشراكة في الحداثة لتعزيز الهدف الكبير لنظام السلام الأوروبي الذي يمتد من الأطلسي إلى فلاديفوستوك، لأن ذلك بحسب رأيه يصب: "في المصلحة المشتركة للشعب الروسي والألماني وكل شعوب أوروبا".
ولكن مع عودة الرئيس فلاديمير بوتين إلى فكرة القومية الرجعية وتشديد قبضته الحديدية على البلاد، بدأت تلك السياسة تفقد كثيرا من فعاليتها، ثم أتى الاحتلال الروسي للقرم في عام 2014 والهجمات الإلكترونية على البرلمان الألماني بعد ذلك بعام ليدمر تلك العلاقات من جذورها. وهكذا أخذت روسيا منذ ذلك الحين تنشر معلومات مغلوطة في عموم أوروبا، ثم تدخلت في سوريا وأذكت النزاع القائم في ليبيا.
ومع كل تصرف من تلك التصرفات المارقة، بدا شعار التغيير من خلال التقارب فارغاً، إذ أصبح مؤيدوه في غاية السذاجة أو مجرد منظرين بنظر البعض (بل أسوأ من ذلك)، أما بين السياسيين في ألمانيا، فقد تنامت حالة التحرر من الوهم جنباً إلى جنب مع تزايد السخط الذي تبدى ليس فقط من خلال زيارة المستشارة أنجيلا ميركل للسيد نافالني وهو على سرير المرض في المشفى والتي وصفت بأنها جريئة بلا حدود حيث قامت من خلالها بالتعبير عن مشاعرها.
ولهذا يجب ألا يفاجئ أسلوب المواجهة الذي انتهجته ألمانيا مؤخراً أي أحد، إذ ترى ليانا فيكس مديرة برنامج الشؤون الدولية لدى مؤسسة كوربر-ستيفتونغ بأن: "تسميم السيد نافالني كان العنصر المحفز بالتأكيد". وبعيداً عن تحديد حالة الابتعاد الجديدة في النهج الألماني عن روسيا، ترى السيدة فيكس بأن رد الفعل تجاه عملية تسميم السيد نافالني عرت بكل بساطة مدى العطب الذي أصيبت به تلك العلاقة.
إلا أن تقاليد السياسة الخارجية القائمة منذ أمد بعيد لا تنتهي بهذه البساطة، إذ ما يزال نهج التغيير من خلال التقارب مقدساً في بعض أقسام الحزب الديمقراطي الاجتماعي، وفي عدد كبير من الولايات بألمانيا الشرقية. ثم إن العديد من المشاريع التجارية الألمانية، ومنها تلك المشاريع التي تسد حاجة الأسواق في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى تفضل وبشكل كبير الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع روسيا، كما هي حال كثير من فروع الاتحاد الديمقراطي المسيحي التي تركز على التجارة والمشاريع التجارية.
وفي الحقيقة يمكن القول أن ألمانيا انقسمت حول طريقة التعاطي مع روسيا، إذ خلال الأسابيع الماضية، تصدرت أصوات المتشددين المشهد بشكل أكبر، إلا أن البلاد لم تقلب ظهر المجن في علاقتها مع روسيا، حتى الآن على الأقل.
وقد ظهر ذلك بشكل واضح في الجدل الذي قام حول خط غاز نورد ستريم 2، وهو عبارة عن مشروع شارف على الانتهاء وكلف 11 مليار دولار، حيث يمتد من الساحل الروسي بالقرب من سان بطرسبورغ إلى ألمانيا، ويعتبر هذا المشروع شاهداً على وجود علاقة مميزة بين هذين البلدين. ومع ذلك قوبل هذا المشروع على المستوى الدولي بمعارضة قوية.
إذ بالنسبة للولايات المتحدة وغالبية الدول الأوروبية، يمثل هذا المشروع مزيدا من الجهود المكشوفة لمد النفوذ الروسي. وبالنسبة لأوكرانيا وجيران ألمانيا في أوروبا الشرقية، يقدم هذا المشروع أداة خطرة لروسيا لتقوم بممارسة سيطرتها على عملية تزويد المنطقة بالطاقة.
وفي ألمانيا نفسها، انتشرت شكوك كبيرة حول هذا المشروع لبعض الوقت، وعندما تم تسميم السيد نافالني، طفت تلك الشكوك على السطح، حيث ظهر هيكو ماس وزير الخارجية الألماني ليطالب بالتحقيق في هذا المشروع وذكر أنه: "تمنى لو لم تجبرنا روسيا على تغيير موقفنا تجاه نورد ستريم 2". فكانت تلك المرة الأولى التي يفصح فيها أحد أعضاء الحكومة الألمانية بشيء ضد ذلك المشروع. وبصرف النظر عن إصدار توبيخ رسمي بذلك، قامت المستشارة ميركل بتأييد هذا التعليق.
غير أن الأمور لم تجر أبعد من ذلك، إذ بدت الحكومة وكأنها تراجعت عن موقفها، ثم أخذ المشروع يتقدم. وبالرغم من عدم إمكانية إيقاف مشروع نورد ستريم 2، إلا أن الأخطار المترتبة عليه ستكون جسيمة. ففي البداية، هنالك احتمال رفع دعوى مكلفة من أجل الانتقام والتشفي، بعد ذلك ستظهر التداعيات السياسية لهذا المشروع حتماً. إلا أن الأهم من كل ذلك هو أن إيقاف مشروع نورد ستريم 2 سيعتبر إشارة واضحة وجلية لانقلاب ألمانيا على روسيا.
ولهذا تسعى ألمانيا عوضاً عن ذلك في الوقت الراهن إلى دعم شركائها الأوروبيين. فقد وافق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يوم الإثنين الماضي على المقترح الذي تقدمت به ألمانيا وفرنسا بشأن فرض عقوبات على مسؤولين روس متهمين بتسميم السيد نافالني. وعليه فإن تحويل النزاع إلى قضية أوروبية يعتبر خطوة ذكية، فمن الأهداف التي يسعى إليها بوتين نشر بذور الشقاق في الاتحاد الأوروبي، وقد أتت الفرصة لأوروبا حتى ترد عليه بصوت واحد.
غير أنه لن يكون بوسع ألمانيا أن تستخدم تلك فرامل الاتحاد الأوروبي الخلفية دوماً، إذ يمكن للمواجهة أن تتطور لمستوى أبعد من ذلك، وعلى الأرجح لن ينسى بوتين ما حدث، ولن يسامح عما جرى في الأسابيع الماضية. وفي الوقت الذي تواجه فيه روسيا فيروس كورونا على المستوى المحلي، وتدخل في نزاعات مع دول الجوار، لم يعد بوسع أحد أن يخمن مآل الأمور، ولهذا يتعين على ألمانيا أن تكون مستعدة وأن تعرف كيف ترد.
المصدر: نيويورك تايمز