icon
التغطية الحية

نيويورك تايمز: محاكمة أنور رسلان إدانة مهمة للعنف الذي يمارسه النظام السوري

2022.01.15 | 14:00 دمشق

المتهم أنور رسلان في قاعة المحكمة قبل النطق بالحكم
المتهم أنور رسلان في قاعة المحكمة قبل النطق بالحكم
نيويورك تايمز - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

عندما يصل المعتقلون إلى فرع الأمن في سوريا، "يرحب" بهم الفرع بساعة من الضرب والجلد بحسب ما ذكروا أمام محكمة ألمانية.

كانوا يحتجزونهم في زنازين ضيقة وحارة ومزدحمة، ويطعمونهم بطاطا بطعم المازوت، ويشربون من مياه المرحاض. يتذكر أحدهم كيف كان يمر بالجثث المرمية في الممر، في حين ذكرت امرأة بأن المحققين صعقوا يديها وساقيها وصدرها بالكهرباء في أثناء الاستجواب.

في أول محاكمة في العالم لمقاضاة التعذيب الذي تمارسه الدولة في سوريا، دانت محكمة ألمانية في كوبلنز يوم الخميس الماضي مسؤولاً سابقاً في المخابرات كان يضطلع بمهام ذلك الفرع الأمني، ألا وهو فرع الخطيب سيئ الصيت بدمشق، وذلك لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، وحكمت عليه بالسجن المؤبد.

وقد ورد في الحكم الصادر بأن الضابط السابق أنور رسلان البالغ من العمر 58 عاماً أشرف على عمليات التعذيب والقتل التي تعرض لها ما لا يقل عن 27 سجيناً، بالإضافة إلى إشرافه على انتهاكات جنسية "خاصة الاغتصاب الشديد" بحق المعتقلين.

وقد رحب محامون مختصون بحقوق الإنسان وناجون سوريون بهذا الحكم واعتبروه خطوة مهمة على طريق سعي الدول كافة لمحاسبة من ارتكبوا جرائم حرب خلال السنوات التي تكاد تصل إلى إحدى عشرة في الحرب السورية. كما أن هذا الحكم مثل سابقة في محاكمة مجرمين خارج سوريا، إذ كانت تلك المرة الأولى التي يتم من خلالها استهداف فظائع وجرائم ارتكبها نظام ما يزال في السلطة، وذلك بحسب ما ذكرته ستيفاني بوك مديرة المركز الدولي لأبحاث وتوثيق محاكمات جرائم الحرب التابع لجامعة ماربورغ بألمانيا، حيث قالت: "كان ذلك الحكم بالغاً في الأهمية، والرسالة التي يوجهها هي أنه لم يعد هنالك أي ملاذ آمن لمجرمي الحرب، وإنها لإشارة واضحة بأن العالم لن يقف متفرجاً من دون أن يفعل أي شيء تجاههم".

غير أن هذا الحكم يسلط الضوء على التقصير الصارخ في الجهود الدولية التي يجب أن تسعى لمحاكمة مجرمي الحرب في دول مثل سوريا، فأنور رسلان الذي خدم كعميد في جهاز المخابرات السوري لم يكن أكثر من جزء صغير من آلة القمع الكبيرة في سوريا، فهنالك الكثير من السوريين الذين يتمتعون بنفوذ وقوة أكبر من تلك التي تمتع بها أنور رسلان، وهؤلاء متهمون ليس فقط بارتكاب جرائم على نطاق واسع، بل أيضاً بوضع سياسات أدت إلى قتل المدنيين بصورة جماعية، وما يزال هؤلاء يعيشون أحراراً في سوريا، بينهم المستبد الذي يحكمها، أي بشار الأسد.

Holding pictures of Syrian civil war victims outside the courthouse where Mr. Raslan was on trial on Thursday in Koblenz, Germany.

سوريون يرفعون صور ضحايا الحرب السورية أمام مبنى المحكمة حيث تجري محاكمة أنور رسلان

تقول لينا محمد التي أدلت بشهادتها حول احتجازها في عام 2012 في الفرع الذي كان أنور رسلان مسؤولاً عنه: "سؤالي هو: هل تلك هي العدالة التي ننشدها؟ إن العدالة التي أنشدها بصراحة تتمثل بمحاكمة بشار نفسه وأعوانه الذين ما يزالون يرتكبون جرائم مروعة".

غادر أنور رسلان سوريا في عام 2012، أي في السنة الثانية للحرب، وانضم إلى صفوف المعارضة السياسية التي ساعدته على تأمين تأشيرة للسفر إلى ألمانيا في عام 2014. إلا أن الحرب في سوريا بقيت تستعر لسنوات أخرى، حيث استخدمت قوات النظام الغاز السام خلالها، كما فرضت حصاراً أدى إلى تجويع الناس في المناطق الثائرة، واستحالت الأحياء السكنية إلى ركام بسبب حملات القصف التي استهدفتها.

كما أن كلاً من الثوار الذين حاولوا ولكن فشلوا في إسقاط بشار الأسد، والجهاديين في تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية الذين استغلوا الفوضى الحاصلة بسبب النزاع، ارتكبوا جرائم حرب هم أيضاً.

غير أن حفنة قليلة من مرتكبي تلك الجرائم من كل الأطراف تجري محاكمتها.

ويرى الخبراء بأن أحد أسباب ذلك تعود إلى أنه بخلاف كبار النازيين بعد الحرب العالمية الثانية أو المسؤولين الروانديين الذين أدينوا بارتكاب جرائم، بقي النظام السوري الذي تعتبر أجهزته العسكرية والأمنية مسؤولة عن ارتكاب كم كبير من العنف في البلاد، في السلطة، فحصن بذلك قادته وضباطه من أي خوف ممكن أن يشعروا به حيال ذلك.

ثم إن بشار الأسد وكبار مستشاريه وقادته العسكريين نادراً ما يسافرون خارج البلاد، وإن حدث وسافروا، فلن يسافروا إلا إلى دول يضمنون عدم اعتقالها لهم، مثل روسيا التي تعتبر أقوى داعم لبشار الأسد.

أما السبل الأخرى التي يمكن أن تحقق العدالة فباتت كلها مقطوعة، وذلك لأن سوريا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي، ولقد استخدمت روسيا والصين حق النقض لدى مجلس الأمن الدولي لمنع إحالة الملف السوري إلى تلك المحكمة.

وبسبب ذلك، أخذ ضحايا النظام السوري والمحامون المتخصصون بحقوق الإنسان يركزون جهودهم في الدول التي تقبل "الولاية القضائية الشاملة"، أي ذلك المبدأ الذي يشترط أنه في حال وقوع جرائم ضد الإنسانية وعمليات إبادة، عندئذ يمكن تجاوز القيود الإقليمية العادية بالنسبة للملاحقة القضائية.

Setting up pictures of victims of the Syrian war during a protest outside the trial. 

سوريون يضعون صور ضحايا الحرب السورية خارج مبنى المحكمة التي تجري فيها محاكمة أنور رسلان

وبفضل تاريخها مع النازية، أصبحت ألمانيا أول سبيل ممكن بالنسبة لتلك الملاحقات القضائية، كما أنها تؤوي الآلاف من اللاجئين السوريين، ما جعلها تمثل محور الجهود الساعية لمقاضاة المسؤولين السوريين.

غالبية اللاجئين السوريين الذين وصلوا إلى ألمانيا في عام 2015 و2016 هربوا من قوات بشار الأسد، إلا أن بعضاً منهم، من أمثال أنور رسلان، خدموا في جيش بشار ولدى أجهزته الأمنية.

ولذلك بنى المدعون العامون في ألمانيا أساس قضيتهم المرفوعة ضد أنور رسلان بمساعدة العشرات من الشهود السوريين في ألمانيا وغيرها، كما أجروا تحقيقاً منفصلاً جمعوا من خلاله أدلة على مدار عقد كامل من الزمان وذلك حتى يتبين لهم ما تمارسه الدولة في سوريا من أعمال في الداخل، إلى جانب التعرف إلى بنية وتسلسل القيادة فيها.

تعود فكرة الولاية القضائية الشاملة إلى محاكمات نورمبيرغ التي أقامها الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية لمقاضاة من نجوا من أفراد النظام النازي. كما استعانت إسرائيل بالولاية القضائية الشاملة في المحاكمة التي أجرتها في عام 1961 لضابط نازي سابق اسمه أدولف أيخمان، وكذلك فعلت إسبانيا في عام 1998 وذلك عندما طالبت بريطانيا بإلقاء القبض على الجنرال أوغستو بينوتشيه ديكتاتور تشيلي السابق.

عالجت القضايا السابقة التي اعتمدت على الولاية القضائية الشاملة في ألمانيا الجرائم المرتكبة في رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وخلال فترة قريبة تعاملت مع المجزرة التي جرت بحق اليزيديين في العراق على يد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية.

أما بالنسبة لسوريا، فترى ستيفاني بوك بأن الحكم الذي صدر يوم الخميس الماضي ما هو إلا جزء يسير من العمل الكثير الذي ينتظرنا من أجل تحقيق العدالة، وتعلق على ذلك بقولها: "مع الوقت ستظهر الحاجة إلى لجنة تقوم بتقصي الحقائق وآليات بديلة للتعامل مع كل أنواع المظالم، أي علينا أن نفكر على المدى البعيد".

خضع لمحاكمات نورمبيرغ أهم رموز النظام النازي، كما خضع لها أيضاً عدد من الأفراد الذين لعبوا أدواراً مهمة في عملية القمع النازية، كان بينهم أطباء ورجال أعمال وموظفون وإعلاميون، بحسب ما ذكر فولفغانغ كاليك مؤسس المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الذي مثل الضحايا في محاكمة أنور رسلان، ويعلق هذا الرجل على ذلك بالقول: "إن ذلك ما ساعدنا على إلقاء نظرة على كامل الجهاز الذي قام بالمحرقة" وأضاف بأن محاكمة أنور رسلان: "هي أول خطوة في محاولتنا للتعرف إلى الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد".

يذكر أن هنالك دعاوى أخرى قيد التحضير، فقد وجهت اتهامات إلى طبيب سوري بتعذيب المعتقلين في سجن عسكري سري وقتل ما لا يقل عن شخص واحد منهم، وهذه القضية ستبدأ المحاكمة فيها في ألمانيا قريباً بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والتسبب بضرر جسدي بالغ.

اعترف محامو حقوق الإنسان بأن تلك القضايا لم تستهدف حتى الآن سوى مسؤولين سوريين من ذوي الرتب المتدنية أو المتوسطة وكذلك استهدفت مجرد جنود عاديين، إلا أن محاكمة هؤلاء يمكن أن تسهل محاكمة ضباط أرفع رتبة مستقبلاً، وذلك عبر تقديم الوثائق وإفادات الشهود والاطلاع على العمليات التي تقوم بها الدولة في سوريا والتي ستسجل كلها في سجل المحكمة برأي فولفغانغ كاليك، الذي قال: "إن لم تبدأ الآن، فلن تصل إلى بشار الأسد وكبار ضباط المخابرات لديه حتى بعد عشر سنوات، وذلك لعدم وجود أدلة بين يديك".

وقد أثار الحكم مشاعر متضاربة بين السوريين الذين تعرضوا لانتهاكات في السجون بسوريا، حتى أولئك الذين عانوا من تلك الانتهاكات على يد أنور رسلان نفسه.

في حين ابتهج كثيرون لدى معرفتهم بأن الرجل الذي أشرف على عمليات التحقيق لدى أحد فروع الأمن بدمشق أصبح يقف في قفص الاتهام اليوم. إذ يقول مهران عيون الذي اعتقل مرتين في السنوات الأولى للحرب: "هذا الرجل الذي اعتبر نفسه طاغية في يوم من الأيام ورئيس فرع قوي وصاحب نفوذ، أصبحت أراه اليوم وهو يقف أمام المحكمة بكل ضعفه وذله، وهكذا أصبح من عذبهم في موقف أقوى من موقفه".

في حين يأمل آخرون أن يسلط الحكم الصادر بحق أنور رسلان الضوء على الكثير من الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب السورية والتي لم ترفع أي دعوى ضدها، وكذلك الأمر بالنسبة للمسؤولين الذين ارتكبوا تلك الجرائم وظلوا طلقاء.

ويقول وسيم مقداد الذي اعتقل أربع مرات في بداية الثورة وقام أنور رسلان بالتحقيق معه بنفسه: "يمثل ذلك بداية الطريق الطويل الذي يتجه نحو إحلال العدالة".

المصدر: نيويورك تايمز