نهج البلاغة الأسدي: الأسد والمعلّم والمقداد وابن الحنظلية

2020.11.28 | 23:00 دمشق

b722b-ualid2bal2bmelm.jpg
+A
حجم الخط
-A

" إنَّ من الـبَيَان لسِحْرًا"، وليس أكثر سحراً من الكلمة، وما زال السحرة يعالجون المرضى بالكلمات، بل إنهم في أفريقيا يستغنون بها عن العمليات الجراحية، رأينا سحرة كثراً في السيرك، أخرجوا أرانب وحماماً من قبعاتهم، لكن لم نرَ ساحراً يخرج رغيفاً من جيبه. سأروي ثلاث وصفات كوميدية من السينما والتلفزيون لإعداد وجبة للجياع، وللوصفات صلة بالبلاغة، وصفة لشارلي شابلن، والثانية لعادل إمام، والثالثة لدريد لحام، بعد هذه الديباجة وسيأتي البرهان:

 البلاغة اللفظية شأن الإعلام السوري والعربي بعامة، فقد كان إعلام بلاغة وصوت، وكُتبت عن البلاغة العربية الكذابة قصائد ومقالات، منها قصيدة "سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا" لمحمود درويش، ويمكن أن نذكر المذيع المصري الشهير الزمّار أحمد سعيد، ووجدت أقواماً يمدحون الطوّاط أحمد سعيد الصحاف وزير خارجية العراق بقولهم إنه قام بواجبه في الدفاع عن أسوار بغداد ضد العلوج، لكن أسوار بغداد سقطت، وهرب هو، ولو استشهد لكان أعذر له، ثم رأيناه أبيض الشعر في الإمارات، وكان أسوده في العراق، فقد كان الصحاف يكذب صوتاً وصورة على الشعب أما العدو فكان قد عرف كل الأسرار.

 

المحصول بعد عشر سنوات من الحرب على الشعب السوري، أنَّ ذخيرة النظام اللغوية والصوتية والبلاغية نفدت، وأقحطت، والجيل الجديد يتعلم الروسية والفارسية!

الفصاحة تنفع مع الشقيق والأخ والعشيرة، في المنتدى، وفي النادي، ولا تنفع مع العدو في الوغى، فالعدو لا يفهم سوى بلاغة السيف، وسمعنا شعارات ذات رنين وطنين، مثل قائدنا "إلى الأبد الأمين حافظ الأسد"، ووافقت الأقدار حظ الأسد، فمدحه الجواهري النازح من العراق بقصيدته التي مدح بها ملوكاً كثيرين، وكان يتكسّب بالقصيدة نفسها في أكثر من بلاط!

المحصول بعد عشر سنوات من الحرب على الشعب السوري، أنَّ ذخيرة النظام اللغوية والصوتية والبلاغية نفدت، وأقحطت، والجيل الجديد يتعلم الروسية والفارسية!

 أمس قرأت لكاتب سوري من كتّاب النظام الميامين، يندب وليد المعلم، ويبكيه، وربما نجد منهج وليد المعلم يدرّس في الأكاديميات، والعلوم السياسية، إذا بقي في سوريا أكاديميات سياسية غير فرع فلسطين وصيدنايا.

وقال الكاتب في ذكر أمجاده، إنه خطب في الأمم المتحدة، في مؤتمر جنيف الذي عقد في 22 من كانون الثاني 2014، فقد حددوا له عشر دقائق لكلمة سوريا، وعندما أبلغه بان كيمون أمين عام الأمم المتحدة، غير مرة، بانتهاء الوقتَ المحدد، أجابه المعلم سيد الحلماء والمنسقين: "أنتَ تكلمتَ 25 دقيقةً، أنا أعيش في سوريا وأنت تعيش في نيويورك، لدي الحق لإيصالِ الصورة الحقيقية في سوريا". تكلم المعلم لمدة أربعٍ وثلاثين دقيقة، أي زاد على مدة كلمة بان كيمون بعشر دقائق، فطوبى للشعب السوري، لهذا البطل المقدام الذي أثخن العدو واشتفى منهم، وسلقهم بلسانه الحديد وأباد خضراءهم.

ويتابع الكاتب النحرير: "وقد دخلت كلماتُهُ التاريخ عندما هزَّ سبابتَهُ في وجهِ جون كيري وزيرِ خارجية أميركا آنذاك: "لا أحد في العالم سيد كيري، لا أحد في العالم يستطيع إضفاءَ الشرعية أو عزلَها أو منحَها لرئيسٍ أو حكومةٍ أو دستورٍ أو قانونٍ أو أي شيءٍ في سوريا إلا السوريين أنفسهم". ولا نعرف إن كان جون كيري ارتعد، خوفاً من سبابة المعلم وإبهامه وخنصره وبنصره، وبدأ بدفع الجزية للمعلم.

سنذكر أمثلة من بلاغات الرعيل الأول في الجمهورية الأولى، الزعيم السياسي فارس الخوري، الذي تعمد الجلوس في مقعد مندوب فرنسا في الأمم المتحدة، فطالبه المندوب الفرنسي بتحرير مقعده فوقف مخاطباً المندوب الفرنسي بصوتٍ يسمعه كل من في القاعة: "سعادة السفير: جلست على مقعدك 25 دقيقةً، فكدت تقتلني غضباً وحنقاً، وقد احتملت سوريا سفالة جنودكم 25 سنةً، وقد آن لها أن تستقل"، وفعلًا في هذه الجلسة نالت سوريا استقلالها.

ويمكن أن نتذكر عمر أبو ريشة، الذي سأله كيندي عن السوريين ويعرّفه بهم أكثر، فأجابه: فخامَة الرّئيس، جدّنا السوري (عيسى عليه السلام) هو ربّكم يا سيّدي!

والبلاغة تحمد في محلها، والسيف أصدق أنباء من الكتب، وكان الشعراء العرب يتكسبون بالشعر، وأحياناً بالنثر، فيرق قلب الخليفة، والبلاغة أنواع، منها بلاغة الحكمة، ومنها بلاغة الحجة، ولا حجة في المعارك، فالقوة هي الحجة، وقد انتهت جميع أنواع البلاغات السورية، فملَّ موالو النظام أنفسهم من البلاغة الصوتية اللفظية، فصرنا نجد تعليقات شجاعة من الناشط السوري بشار برهان، وهو رجل فقد أولاده في الحرب وتغريدات جسورة لنضال نعيسة، ولم نعد نرى الديك الفصيح وئام وهاب، ولا ناصر قنديل الذي غاب منذ سنوات، وهو أكثر بلاغة من أقرانه وأذربهم لساناً وأعجمهم عودا، وشاخ شريف شحادة، ولم نعد نرى الأمم المتحدة تذوب طرباً بأقوال الجعفري وهو يسمعهم أشعار نزار قباني.

 الشعب السوري جائع، ويريد أن يأكل، وسمعنا وزير الخارجية الجديد ينشد قائلاً: "الأوروبيون يعيشون بلا تاريخ وبلا قيم، يعيشون ليأكلوا ويشربوا ويناموا، ولا رسالة لديهم. نحن في سوريا نعيش رسالة وقيما"!

فأطيب بهذا العيش، وأنعم به.

استنفد النظام كل مؤنه من البلاغة والألفاظ، بلاغة الخطابة الدينية، بلسان أحمد حسون ووجهه الباسم وعمامته الكبيرة، وبلاغة عبد الستار السيد الذي سمعته مرة وهو يكرر قائلاً: إن القوى الخارجية تريد أن تفتَّ في عضدنا، ووجد صعوبة في نطق "عضدنا" حتى فتح الكلمة ودانت به، وبلاغة البوطي البيانية، وبلاغات نجوم التلفزيون مع دموع التماسيح، مثل الزير سلوم، وبلاغة جمال سلاف فواخرجي، وضيفة الشرف إلهام شاهين بعواصفها الغبارية.

نعود الى الوصفات الثلاث في إعداد مائدة للجياع، الوصفة الأولى:

 شارلي شابلن في فيلم "البحث عن الذهب"، يجوع، وصاحبه في صحراء الثلج والبرد، فلا يجد سوى جزمته فيطبخها، ويتقاسمان الجزمة من غير بطاقة ذكية، والمشهد معروف، ومحل الطرافة أن رباط النعل يصير معكرونة، والمسامير تغدو عظام اللحم، وجلد الجزمة لحماً.

أما مشهد عادل إمام في مسلسل "أحلام الفتى الطائر" فيلقي بثمرات الخضار من باذنجان وكوسا من غير تقطيع في قدر الطعام، ويكسر بيضة ثم يرمي بها مع قشرتها في القدر.

أما مشهد السورية الطعامي الكوميدي، فنرى فيه غوار وأبو عنتر وهما يطبخان ماء فيه حجارة ورغوة صابون، ينتبه أبو عنتر إلى أن الحساء يحتاج إلى ملح وبهارات، فيكتب على ورقة: ملح ويرميها في القدر، بهارات يكتب ويرميها في القدر!

وقد انتبه أذكياء البلاغة الإعلامية في جهاز النظام مبكراً للجزمة، ليس لأكلها وإنما لتقبيلها، وتقديسها.

عسى أن يكون "نهج البلاغة" البعثية والرسالة والقيم انتهى.