نقيب الفنّانين: بين حماية الذوق العام وخطاب السلطة

2022.09.13 | 07:13 دمشق

نقيب الفنّانين: بين حماية الذوق العام وخطاب السلطة
+A
حجم الخط
-A

لا تُقام "الحفلات" أو "المهرجانات الشعبيّة" في مكان يوحي بالعظمة مثل "دار الأوبرا" في دمشق التي ستشهد يوم: (15 الشهر الجاري) حفلاً فنّيّاً يحييه: "أمير الغناء العربي" هاني شاكر تلبية للدعوة المقدّمة من وزارة السياحة ونقابة الفنّانين.. بل تُقام الحفلات الشعبيّة في زقاق فرعي في حيّ شعبي، أو في مطعم أو في صالة أفراح.. وكذلك فإنّ جمهور المهرجانات الشعبيّة ليس نخبة منتقاة تعبّر عن طبقة ثقافيّة، تُشرّف السلطة، بل هو جمهور من عامّة الشعب.

لم تكن النخبة -الفنّية والإعلاميّة- في مصر راضية عن مغنّيين شعبيين مثل: "حمو بيكا وحسن شاكوش" وغيرهما.. ومن ثمّ فإنّ قرارات نقيب الفنّانين المصريين "هاني شاكر"، في منعهما وآخرين من الغناء، لاقت استحسانا كبيرا من "النخبة الفنّية والإعلاميّة"؛ لأنّهم مغنّون: "لا يُغنّون صح" بحسب نقيب الفنّانين..

نقيب الفنّانين التابع لحكومة النظام السوري "محسن غازي" هو الآخر يمثّل سلطة مهنيّة وقد قرّر ممارستها في منع المغنّية الشعبيّة "ريم السواس" من إقامة حفلات لها في مدينة حلب؛ بداعي أن المغنّية تستخدم في أغانيها: "ألفاظاً نابية".

لا يسوءنا الزعم أنّ قصور ممارسة السلطة المهنيّة على "المنع" فحسب لا يشير عن عمل مؤسّساتي بالقدر الذي - قد- يعبّر عن منطق سلطويٍّ

لعل ما يجمع بين قرارات المنع الصادرة عن النقيبين أنّ تلك القرارات تُعبّر- في ظاهرها- عن هدف أخلاقي وجمالي. إذ هي لـ "حماية الذوق العام" أو "القيمة الفنّيّة". ونحن في هذه المقالة لن نحاول إثبات توفر قيمة فنّية في أعمال المغنّين الشعبيّين أو عدم توفّرها. بل سنحاول - في حدود ما تتسع له المساحة - ملاحظة ظاهرة: "المنع بهدف الحماية". إذ بدا النقيبان، في أثناء ممارسة الظاهرة، يتمتعان بسقف حريّة جيد، وبسلّطة مهنيّة!

وقد لا يسوءنا الزعم أنّ قصور ممارسة السلطة المهنيّة على "المنع" فحسب لا يشير إلى عمل مؤسّساتي بالقدر الذي - قد- يعبّر عن منطق سلطويٍّ؛ حيث يجسّد هذا المنطق شكل السلطة ذاتها وباستمرار في قوالب ومناسبات متعدّدة.

وقد يُبتلى بالمنطق السلطوي معلّمٌ –على سبيل المثال- فيتصوّر أن مهمّته التعليميّة تتركّز، في المقام الأوّل، على "منع" التلاميذ، فيتفنّن في اختراع الممنوعات. وقد يبتلى بالمنطق السلطوي صاحب علم شرعي؛ فينسف قاعدة فقهيّة تقول: "إنّ الأصل في الأشياء الإباحة" متوهّما "أنّ الأصل في الأشياء المنع". والمنطق هو هو ذاته الذي تستخدمه مؤسّسات أمنية تابعة لسلطة مستبدّة، فتنتظم سلسلة الاستبداد من أسفل الهرم إلى رأس النظام، في حين أن هدف "حماية الـ.." غالبا ما تُشكّك الشعوب!

شكّك طيف من الجمهور السوري المعارض، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، في أن تكون الكلمات "النّابية" التي تستخدمها المغنّية "ريم السوّاس" هي السبب الحقيقي لمنعها من الغناء. حتّى أنّ بعضهم رجّح أن السبب يكمن في أنّ الكلمات التي تؤدّيها المغنّية تحمل رسائل مبطّنة، موجّهة نحو رأس النظام السوري. ومن تلك الرسائل ما توحيه جملة: (أكبر غلطة بحياتي علّيت واحد واطي)!

على أيّة حال فإنّ جمهورا واسعاً تمثّل تلك الجملة لمواقف عديدة، إذ يمكن أن يكون المقصود منها حبيباً، أو صديقاً، أو غير ذلك. وقد يكون من بين تلك المواقف الموقف من النظام. وللتأكد مما إذا كانت الجملة تحمل مضموناً سياسيّا سنحاول ضبط معناها الذي قد يكون: (أنّ طرفاً ما كان قد منح جهة مقابلة "قدْرا".. لكن الجهة المعُترف بقدْرها خيبت أمله، لذلك فقد قرّر المُعترِف سحب اعترافه والانقلاب على ما سبق..)، فهل يؤذي هذا المعنى سلطة!

في كتابه "فيمنلوجيا الروح" طرح الفيلسوف الألماني (هيغل) تصوّره عن سيرورة التاريخ السياسي والاجتماعي من خلال نموذج معركة جدليّة تدور رحاها بين طرفين: ينتصر أحدهما فيصبح سيّداً ويُهزمُ الآخر فيُمسي عبداً.

ثم مع مرور الزمن، ونضج التجربة، يتوصّل "السيّد" إلى أن سيادته ستبقى منقوصة ما لم يعترف بها (سيّد مقابل) وأن مصلحته تقتضي تحرّر العبد.. فيتحرّر العبد، وتنشأ، بين الطرفين، علاقة قائمة على "المساواة" والاعتراف المتبادل بالقدْر والكرامة.. ومن جدليّة هذه العلاقات المتبادلة ينشأ التاريخ، ويتطوّر فلا يعود التاريخ إلى الوراء أبداً.

لكن لم يخبرنا هيغل عمّا لو اكتشف أحد الطرفين أن اعترافه السّابق بقدْر الآخر كان خاطئاً.. فهل عليه أن يتمثّل رؤية "هيغل" في عدم إمكانيّة عودة التاريخ إلى الوراء، أم عليه أن يتمثّل جملة: (ريم السواس) فينقلب على التاريخ!

ليس بوسعنا معرفة ما إذا كان نقيب الفنّانين: "محسن غازي" أو ضابط أمن "حماية الذوق العام" مهتمين، بالفعل، بالربط بين "هيغل" وبين الأغاني الشعبيّة. أما النظام المجرم فلا يطلب "اعترافاً" من الشعب، لكنّ مخابراته تهتم بكل تأكيد لأيّة كلمة تعبّر عن "عدم الاعتراف".

لكنّا قد لا نحتاج إلى إجراء استبيان لملاحظة أنّ فجوة ما يزداد اتّساعها بين "الشعبي" وبين النّخب المهادنة أو المتحالفة مع السلطة، وأنّ نسبة عالية من الشباب المُحبط في دول "الربيع العربي" لا تزال تشعر بخيبة أمل تدعوها إلى الانقلاب على التاريخ، وإلى سحب "الاعتراف بقدْر" مزيدٍ من النّخب الثقافيّة والسياسيّة!

إذ ما نفع النخب "العظيمة" إن كان دورها سينحصر في إحدى ممارستين:

  • الانتفاع - دون الشباب- من ارتفاع "نسبي" لسقف الحريّة، اضطرت إليه الأنظمة السلطويّة لتطوير أدواتها وتحسين صورتها أمام النظام العالمي.
  •  استمرار النّخب السلطويّة بالاستثمار في خوارزميّة السلطويّة أي: "المنع.. لحماية" أو بتبريرها..

وحتّى تتجلّى صورة "السلطويّة" التي يمارسها كثير من النخب، ومن بينها الفنّيّة عبر نقابة الفنّانين، سنطرح سؤالا:

 هل يجرؤ هاني شاكر أو محسن غازي – كنقيب فنّانين - أن يمارس سلطة "السماح" كما يمارس سلطة "المنع". فيسمح كلاهما أو أحدهما بإعادة الاعتبار لمطربة مثل "أصالة نصري" تغنّي "صح" ولا "تستخدم ألفاظا "نابية" لكنّها ضد إجرام النظام؟!

حين تقتصر مهمّة النخبة - كل نخبة- على (المنع لأجل..)، فإنّ موانعها ستختلط مع موانع الأنظمة المستبدّة، وكذلك فإنّ مبرّرات النّخبة في المنع (لأجل..) ستندمج مع مبرّرات الأنظمة، وسيبدو الأمر كما لو أنه خطاب سلطوي متكامل.. بكل عناصر المختلّة!

عاين السوريون سقوطاً أخلاقيّاً لقسم كبير من نجوم "المرئي" ذاتهم. فلم يكن أولئك نجوما شعبيّين، بل سلطويّين، ولم يراعوا أدنى المشاعر الإنسانيّة تجاه شعب يباد على يد نظام مجرم

لعلّ "سقوط النخبة وبروز الشعبي" هو أكثر من عنوان كتاب للناقد السعودي: "عبد الله الغذّامي"، يتحدّث فيه عن بروز نجوم المرئي "الدراما والرياضة والتلفزيون" كممثّلين شعبيّين أطاحوا برموز الثقافة الكتابيّة: "الشاعر والأديب والفقيه".. إذ عاين السوريون سقوطاً أخلاقيّاً لقسم كبير من نجوم "المرئي" ذاتهم. فلم يكن أولئك نجوما شعبيّين، بل سلطويّين، ولم يراعوا أدنى المشاعر الإنسانيّة تجاه شعب يباد على يد نظام مجرم، بينما كانوا يدّعون تلك المشاعر طوال مسيرتهم الفنّيّة.. فسقطوا!.

في حين لايزال السوريون يحترمون قامات من مثل "خالد تاجا" -رحمه الله- وغيره من الفنّانين الذين أثبتوا قدّرة فنيّة والتزاماً إنسانيّاً وأخلاقيّاً مع حق الشعب بالحريّة، فإنّ كثيرا منهم لا يزال يتساءل حول ما إذا كانت القيمة الفنيّة، والألقاب السلطويّة ميزات كافية لتسمية: "أمير الغناء أو سلطان الطرب أو ملك الدراما" فنّاناً وإنساناً في وقت واحد.