نقد نظريات التحول الديمقراطي عند عزمي بشارة

2021.01.20 | 00:06 دمشق

zmy_bshart_2.jpg
+A
حجم الخط
-A

يدور جدل كبير بين علماء السياسة حول عالمية نظريات التحول الديمقراطي (Transition) وبشكل أدق مدى ملائمتها إقليميا خاصة فيما يتعلق بكل منطقة من العالم في أفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا والعالم العربي، والحقيقة أن معظم النظريات البديلة ولدت من رحم النقد الأساسي والمركزي لنظرية التحديث كما طورها مارتن ليبست في العلاقة بين حجم الطبقة الوسطى والتحول الديمقراطي، ولذلك اعتمدت نظرية Bureaucratic Authoritarianism  التي طورها شميتر على خصوصية منطقة أميركا اللاتينية وهكذا ينطبق على سمير أمين الذي طور نظرية الاعتمادية الكلية بناء على خصوصية أفريقيا.

ومع تأخر التحولات الاجتماعية والسياسية الجذرية في منطقة العالم العربي حتى عام 2011 حيث بدأت ثورات الربيع العربي بدأنا ندرس بعض الخصوصيات التي ميزت هذه المنطقة عن غيرها وأخرت لحظة انضمام أنظمة هذه المنطقة إلى النظام الديمقراطي بوصفه الشكل الأفضل نسبيا فيما يتعلق بإدارة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقادر على تعبئة الطاقات الوطنية لتحقيق التنمية.

النظريات الاجتماعية تعطينا قوة التنبؤ للفعل البشري، ولذلك تطورت العلوم الاجتماعية بناء على هذه النظريات لأنها تتيح فهم التطورات والتغييرات الاجتماعية والسياسية بشكل أفضل

أعتقد من هنا تنبع أهمية كتاب عزمي بشارة "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته" فهو من طرف كتاب مرجعي في دراسة الثورات العربية بعد مرور عشر سنوات من بدء الربيع العربي، وبنفس الوقت هو كتاب نقدي للنظريات الغربية المختلفة التي عالجت موضوع التحول الديمقراطي في محاولة للإجابة على سؤال الخصوصية العربية وربما تطوير نظرية تفسر الانتقال المتعرج للتحول الديمقراطي في المنطقة الذي امتزج بـكثير من الدماء والحروب الأهلية من سوريا إلى اليمن.

السؤال الذي يطرح نفسه بداية وهو لماذا يشغل علماء السياسة أنفسهم بهذه النظريات؟ الإجابة بسيطة وهي أن النظريات الاجتماعية تعطينا قوة التنبؤ للفعل البشري، ولذلك تطورت العلوم الاجتماعية بناء على هذه النظريات لأنها تتيح فهم التطورات والتغييرات الاجتماعية والسياسية بشكل أفضل، هنا يحاجج بشارة بالقول إنه "لا تمكن النظريات الاجتماعية الباحثين دائما من وضع قاعدة يمكن التنبؤ بموجبها، ولا يجوز الاستعجال في تحديد الاستثناءات في غياب تلك القاعدة. ولهذا لا يصح الحديث عن استثناء عربي مثًلا في الانتقال إلى الديمقراطية لأنه لا توجد قاعدة أصلا".

وربما يُفسر موقف بشارة الحاد نوعا ما من نظريات التحول الديمقراطي بناء على اعتبار أن الاستثناءات أو الخصوصيات تفوق قدرة النظرية على التعميم وصحته وهو لذلك يناقش هذه النظريات بالتفصيل مع معرفة عميقة لكل منطقة من مناطق العالم، فهو يتفق على سبيل المثال في أن "التحولات في أوروبا الشرقية أعادت بعض الوهج إلى نظرية التحديث، لا على مستوى الدول الاشتراكية ذاتها التي حققت درجة عالية من التحديث، بل على المستوى العالمي أيًضا. فترافق تمدد الديمقراطية مع القفزة الكبرى في نمو الاقتصاد العالمي التي تجاوزت توقعات الاقتصاديين النيو كلاسيكيين والماركسيين"، وهو عموما نقد وُوجهت به نظرية التحديث حتى من قبل أقرب المؤمنين بها هنتنغتون الذي ينقل عنه بشارة "هنتنغتون يرى أن التعبئة تمس استقلالية المجال السياسي وتعوق نشوء المؤسسات. ولا يتعب هنتنغتون من التأكيد أن مصطلح «النظام السياسي» في عنوان كتابه النظام السياسي في مجتمعات متغيرة هو هدف في حد ذاته، والتطور السياسي والديمقراطية وفق هنتنغتون ليسا بالضرورة مرتبطين ببعضهما، فيمكن الدولة أن تحقق درجة عالية من المأسسة السياسية والسيطرة على الأرض والسكان من دون أن تكون بالضرورة ديمقراطية". بيد أن هنتغتون تراجع عن ذلك في أيامه الأخيرة لا سيما أنه شهد سقوط الاتحاد السوفييتي أمام عينيه في التسعينيات وهو الذي كان قد وضعه على درجة واحدة مع النظام السياسي الأميركي في كتابه السابق الذكر لسبب وحيد وهو أنه حقق نسبة عالية من الاستقرار السياسي والاجتماعي وهو الهدف الذي كتب هنتغتون الكتاب لأجله في تلك الفترة.

وهو النقد الذي يوجهه بشارة لهنتغتون بالقول إنه "صنّف الدول الغربية الديمقراطية والليبرالية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا والأنظمة الشيوعية الشمولية، مثل الاتحاد السوفييتي، ضمن الفئة ذاتها، باعتبارها أنظمة سياسية فعالة؛ أي إن حكوماتها تحكم فعلا. ورأى أن هذه الأنظمة تتشابه فيما بينها على أساس أن هذه البلدان جميعها تتمتع بإجماع شعبي على شرعية النظام السياسي، وبمؤسسات سياسية قوية ومتماسكة وقابلة للتكيف، وجميعها يشتمل على بيروقراطية فعالة، وأحزاب سياسية منظمة، ومشاركة شعبية واسعة في الشؤون العامة، وسيطرة فعالة للمدنيين على الجيش، ودور كبير للحكومة في الاقتصاد، وإجراءات فّعالة إلى حد ما في تنظيم عملية "تداول الحكم".

ولذلك يتقاطع بشارة مع شيفورسكي الذي اشتهر بنقد نظرية التحديث لعدم انطباقها في الدول الفقيرة فهي وكأنها تضع الدول الفقيرة في خانة الاستبداد المديد بدون أي أمل في التحول الديمقراطي إذا ما حافظت على فقرها وبؤسها، وهو لذلك يعيد كتابة النظرية بطريقة معاكسة عبر القول "يوجد أساس للاعتقاد أن النمو الاقتصادي يولد ديمقراطيات، بل يمكن أن يؤدي إلى أنظمة سياسية مختلفة. لكن، إذا ما نشأ النظام الديمقراطي فإنه يميل إلى الزوال في الدول الفقيرة، أما صموده في الدول الغنية فيقترب من اليقين. ويلخص شيفورسكي مع ليمونجي نقد دراسات الانتقال لنظرية التحديث كما يأتي: لا توجد علاقة مباشرة بين النمو الاقتصادي ونشوء الديمقراطية، بل بين النمو وديمومة الديمقراطية.

فإذا انتقلنا إلى أميركا اللاتينية، فإن بشارة يعتبر أن منظّري الانتقال الديمقراطي في تلك المنطقة ينطبق عليهم "نقد النقد، أو نفي النفي، أي إنهم بدؤوا في نقد نظرية التحديث بربط التحديث بصعود الدكتاتوريات، ثم انتقلوا منها إلى نقد التبعية الكلاسيكية التي لا ترى مخرجا من التبعية غير فك الارتباط بالاقتصاد العالمي، والبحث في خيارات الفاعلين السياسيين بعيدا عن نظرية التبعية التي باتت تضع شروطا بنيوية خاصة بها، ولم تكن الديمقراطية على جدول أعمالها".

برهنت الحالة التونسية على صحة مقولة الكيان السياسي المفروغ منه، كما أكدها سلبيا كل من سوريا واليمن وليبيا؛ إذ لم يتوافر فيها هذا الشرط

في النهاية يصل بشارة إلى القول إن كل هذه النظريات هي مجرد "استنتاجات" كما يسميها وهي، على أهميتها، "لا ترقى إلى تسمية «نظرية» أو «نظريات»، مع أنها قدمت مقاربات نظرية يمكن تطبيقها على حالات أخرى. ففي كل مرة جرت محاولة لتعميم استنتاجات من دراسات الانتقال في منطقة على مناطق أخرى في العالم، أي التصرف كأن هذه الاستنتاجات نظرية قد تسهّل فهم الانتقال إلى الديمقراطية من دون التخصص في الدولة والمجتمعات ذاتها في تلك المناطق الأخرى، كانت النتيجة الاضطرار إلى تعديل النظرية، بحيث تمنح وزنا أكبر لعدد من العوامل المساعدة، وتزداد أهمية البيئة الاجتماعية السياسية والظرف العيني، وأحيانا العوامل الخارجية والبيئة الإقليمية والدولية".

فإذا انتقلنا إلى العالم العربي حيث تظهر قوة بشارة في حججه ونقاشه لنظريات التحول الديمقراطي فإنه يلخص الوضع كالآتي "في حالة الانتقال من الأنظمة السلطوية في العالم العربي، برهنت الحالة التونسية على صحة مقولة الكيان السياسي المفروغ منه، كما أكدها سلبيا كل من سوريا واليمن وليبيا؛ إذ لم يتوافر فيها هذا الشرط. وكان شميتر قد كتب في عام 1995 أن الهوية الوطنية راسخة في الدول العربية، أي إن شرط روستو متوافر فيها، عدا استثناءين هما اليمن والسودان. وهذا ينّم عن عدم اطلاع على أوضاع المنطقة خصوصا في المشرق العربي. كما رأى أّن العراق مجزأ بشكل سيئ على خطوط إثنية ودينية بعد حرب الخليج، وقد يتجزأ إلى كيانات سياسية إذا قامت الدكتاتورية الحاكمة في حينه (نشر المقالة في عام 1995) بعملية لبرلة فضلا عن دمقرطة. وبرر توقعه هذا عجز الدكتاتورية عن الإصلاح قبل حرب عام2003 واحتلال العراق. ولاحقا، قام الاحتلال الأميركي بإسقاط النظام بالقوة، وَفْرض نظام ديمقراطي على العراق يقوم على المحاصصة الطائفية عمليا، ما زاد من تعقيد قضية الديمقراطية في المشرق العربي، فقد استخدمت الأنظمة الحاكمة مثاَلا العراق للتخويف من الديمقراطية وتخوين المطالبين بها بربطها بالاحتلال والتفتت الطائفي".

أعتقد أن بشارة محق في الكثير من نقده لنظريات التحول الديمقراطي التي يسميها "استنتاجات" لكن يبقى السؤال هل سيقودنا نقد بشارة إلى تطوير نظرية تفسر استعصاء التحول الديمقراطي عربيا بعد عشر سنوات من الربيع العربي، أعتقد أن هذا الكتاب  "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته" يضع لبنة هامة في هذا الطريق وربما وعبر فريق الباحثين الذي يقوده في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومن خلال برنامج التحول الديمقراطي يجعلنا واثقين أن كتاب بشارة يستحق منا قراءته ككتاب مرجعي يولد كثيرا من الأفكار التي تحرض على المزيد من القراءات والنقد.