نقابات تبحث عن وطن وسلطات لا تريده

2022.11.29 | 06:17 دمشق

نقابة المعلمين
+A
حجم الخط
-A

يتطور العمل النقابي في سوريا، بشكل طردي مع تكلّس العمل السياسي بكل أبوابه العامة والحزبية، ويمكن عزو ذلك لعدة عوامل وقد يأتي على رأسها فقدان الحواضن الاجتماعية، الثقة بالعمل الجماعي التقليدي، لكن هذا التطور ما زال يحتاج إلى توجيهٍ أكثر وتوسيع رقعة المطالب ورفع سويتها وترشيدها لتشمل غايات أكثر عمقاً كي لا تعبر عن تأثرٍ ما بسلطات أمر الواقع التي رسمت ملامح أيدولوجية حرفت عبرها بوصلة مطالب السوريين في الحرية.

وهنا يجب التفريق بين طبيعة امتلاك الأفراد - المجموعات لتوجهات سياسية وحزبية وأيديولوجية معينة، لكن دون أن تحمل طابعاً من التطرف والإقصاء أو الانقسام والتقسيم.

إذ فرضت حيثيات الصراع السوري ومداخلها الضيقة اضطرابات اجتماعية استثمر بها النظام السوري، على مستوى تعميق الشرخ بين مناطق النفوذ السورية، وتأكيد واقع رسمه بممارسات استبدادية أدّت لرسم خارطة سوريا الحالية هناك لحظ يمكن تعقبه عن توافقٍ من مدخلات المصالح بين سلطات أمر الواقع السورية -رغم اختلافها السياسي الكبير- على وصم أي حراك نقابي ما دون مؤسسات أنظمة كانت قائمة أو ألحقت لاحقاً وفقاً لتطورات مؤخرة بكل ما يمكن إضعاف بعث الهوية السورية الديمقراطية غير الطائفية من جديد.

مع ذلك، من المبشر أن يتطور التمرد على تلك السلطات وما يتقاطع معها من قوى خارجية تدعم سرديات شعاراتية لأجل سوريا ومصلحية لأجل مصالح إقليمية، لا سيما وأن هذا التمرد -في الغالب- يتشكل بوجود بنية تنظيمية جيدة أو ثقافة العمل المشترك والالتزام العام، حيث تتشكل تلك الثقافة -إن صح التعبير- في الجامعات وهذا ما يمكن ربطه لحدٍ ما باستعادة الجامعة بريقها من جديد بعد تغيبٍ بفعل الاستبداد لعقودٍ طويلة، استعادة ما زالت بحاجة إلى جهدٍ أكبر لا يعكس تقسيمات فرضتها القوى بل تتجاوزها على الصعيد الجغرافي والاجتماعي والسياسي.

الواقع، مهم أن تلعب الجامعة دورها، لكن قبل ذلك الأجدر أن تقوم فواعلها/ شرائحها بدراسة القضايا بعناية شديدة وتحرص على تفريغ القضايا من أي تأثيرات استبدادية أو متطرفة تؤدي في جوانب مختلفة لتعزيز روايات الآخرين أكثر من الدفاع عن مطلبٍ محق، كما من المهم أن تدرك نقابات الاتحادات الطلابية السورية أنّ تعدداها قد لا يعني وجود انقسام، فهناك اختلاف كبير بين انقسامٍ ناتج عن واقع أنتجه الاستبداد وتنوع نتاج تفكير جديد حداثي وديمقراطي.

ومن هذا المنطلق مطالبة تلك الفواعل بدراسة متأنية حول أسباب التأسيس وهل هو نتاج رغبة سلطة ما بتعميق الانقسام أو التشويش على تجارب تغرد خارج ما تريده تلك السلطات أم أنّه يعكس تنوعاً ديمقراطياً، وإن كان تنوعاً مهماً ألا تُفهم تلك المتناقضات الحساسة على أنّها حالة مضطربة يجب أن تؤجج صراعاً وجودياً وصفرياً حول أحقية العمل والوجود والتمثيل.

العمل النقابي عظيم، لكنه لن يكون عظيماً دون إدراك لمسؤولياته وإنهاء معركة السرديات التي نتجت عن تداخلات فصائلية رسم ملامحها الصراع المسلح وجزء يسير منها طائفي أو مناطقي وجندري

بل هي امتحان للسوريين لأن تكون "الجامعة" بيئة جذابة لإنتاج وضع اجتماعي وسياسي أكثر نضوجاً مما قدمته المعارضة التقليدية، في المجمل لم تكن الجامعة سوى ماكينة إنتاج اجتماعي باهر ولعلّ العودة قليلاً إلى تاريخ تجرية الاتحاد الوطني لطلبة البريطاني "NUS" يمكن رصد قدرته على إدارة قضايا مختلفة ربما أبرزها؛ تشتت المملكة المتحدة في دولها المختلفة ونجاح التجربة الطلابية التي سطع نجمها من جامعات متفرقة في بريطانيا وويلز وأسكتلندا وإيرلندا الشمالية قبل أن تنضج تحت يافطة اتحاد واحد رغم وجود الكثير من التعقيدات المستمرة.

الحقيقة، العمل النقابي عظيم، لكنه لن يكون عظيماً دون إدراك لمسؤولياته وإنهاء معركة السرديات التي نتجت عن تداخلات فصائلية رسم ملامحها الصراع المسلح وجزء يسير منها طائفي أو مناطقي وجندري.

إنّ دور النقابات في سوريا في وضع اللا دولة، ليس فقط الدفاع عن مصالح شرائحها وأفرداها وليس لعب دور الوساطة بين الدولة والمجتمع كما هو منوط لها أكاديمياً، وإنما البحث عن تشكيل جديد لأدبيات التعامل مع الاستبداد والتطرف في وضع الفراغ؛ أي الحال الذي أوصل البلاد لمراحل سيئة دون مخرجات لها، فضلاً عن العمل في الهوامش وتحويلها لمساحات ثم ساحات للمواجهة مع مشاريع عابرة غير وطنية، وتقديم حلول وطنية قائمة على أساس التنظيم والهوية الوطنية الجامعة كمنطلق للحراك.

فهم الواقع غير كافٍ كما مواجهة سلطات أمر الواقع، سوريا تحتاج إلى حلول ومن المهم في مكان أن تخرج من الجامعة من النقابات الطلابية، أما التعامل مع المشكلات الراهنة بوصفها نهائية وتشكل خطراً على خارطة مصطنعة يمكن اعتباره سوء تقدير وتجسيداً لمصالح سلطة أكثر من تجسيد برغبة فئة مهمة في المجتمع للدفاع عن حقوق محقّة كما أنّ الأهم الدفاع عن حقوق فئة سورية واحدة طالما أنّها تؤمن بوطن جديد جامع ديمقراطي، لا يجب أن يتحول العمل النقابي إلى ما تريده سلطات أمر الواقع له، بل يمكن أن يكون أكثر من ذلك.

من المهم التذكّر، أن الدول يمكن في لحظات مفاجئة أن تمد يدها لقوى وطنية منظمة مثل النقابات الطلابية؛ لا سيما عندما تتغير أولياتها، وكسوريين يجب أن نستعد لذلك اجتماعياً وتنظيمياً والأكثر أهمية ألّا نحول الديمقراطية التي اكتسبناها بفضل الثورة السورية إلى أداة لتقاسم السلطة -مع أنها كذلك- والصراع على مصالح تعكس تكريس واقع مأساوي، بل إلى هبة مكتسبة، تؤصّل لعمل وطني يشارك الجميع لأجله.