نظام الأسد وحماية الأقليات

2018.11.22 | 00:11 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يدعي نظام الأسد أنه النظام العلماني الذي يحمي الأقليات، وخاصة عند مواجهة أي تهديد من الشعب، حيث إنه يصف الطرف المواجه له -أياً كان حجمه- بأنه طرف "إرهابي"، ومعادٍ للتحرر والمساواة بين الناس، أو أنه صاحب فكر "وهابي"، من خلال خطاب "وطني/ قومي" شعبوي، وذلك في محاولة لتغطية سياسته الطائفية القائمة على أساس التمييز بين الناس في كثير من المجالات، وخاصة العسكرية والأمنية.

في عودة للتاريخ، عند اجتياح الاستعمار الفرنسي لسورية عام 1920، ادعى الجنرال غورو كذلك أن مهمة فرنسا هي حماية الأقليات في الشرق، وخاصة المسيحيين، ناهيك عن مهمة تمدين/ تحضير السوريين، فما كان من فارس الخوري، وهو الشخصية الوطنية المعروفة، إلا أن ذهب إلى المسجد الأموي وأعلن من على منبره: "إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا، نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله". 

بالطبع، ليس المقصود من كلام فارس الخوري أنه سيغيّر دينه، وإنما رفض سياسات فرنسا الاستعمارية التي تهدف إلى التفريق بين السوريين على أسس دينية وعرقية، بقصد تسهيل مهمتها، وخلق ذرائع لاستعمارها. ولربما نجحت في بعض الوقت، لكنها لم تتمكن من خلق حالة تفتيت على الرغم من لجوئها إلى وسائل عدة لتكريس تلك السياسة، ومنها تأسيس جيش الشرق باعتماده على الأقليات.

الغاية من هذه السردية هي معرفة كيف تعامل السوريون من "الأقليات" الدينية، مع حدث كبير جداً كالثورة السورية 2011، التي هدفت إلى تغيير شروط الحياة لكل السوريين، ونقلها من ظروف الاستبداد المعمّم إلى شرط الحرية والكرامة؟

لم يتبلور تيار ضمن تلك "الأقليات" يؤيد الثورة تأييداً حقيقياً، وذلك لأسباب عدة، أهمها أن الجسد الغالب للثوار هو من المسلمين السنّة ومن الريف، وثانيهما التخوف الذي جاء لاحقًا من دخول الفصائل الجهادية الإسلامية ومن خطابها الطائفي، والأهم منهما هو تمكن النظام من زرع فكرة التخوف من الثوار، على أنهم الطرف الإرهابي الذي سيكون سيفاً عليهم، وسيعيدهم إلى زمن قائم على سرديات وأوهام سابقة، من اضطهاد المسلمين لبقية المذاهب في عملية استحضار لماضٍ بعيد له شروطه وظروفه، التي لا يمكن أن تتكرر ضمن الظروف الحالية التي تحيط بخريطة الأوضاع في سورية، لكنها سياسة النظام الطائفية التي أتقن اللعب بها، ويبدو أنها نجحت إلى حدٍ كبير.

فما كان من فارس الخوري، وهو الشخصية الوطنية المعروفة، إلا أن ذهب إلى المسجد الأموي وأعلن من على منبره: "إذا كانت فرنسا تدعي أنها احتلت سوريا لحمايتنا، نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أن لا إله إلا الله". 

لا شك أن هناك حالات فردية ظهرت ضمن تلك "الأقليات"، انحازت بالكامل إلى الثورة ومطالبها، وتحمّلت جراء مواقفها هذه الاضطهاد والسجن والمنفى، ناهيك عن "العزل" الاجتماعي من أبناء طائفتها، أما التيار الأوسع الذي كان مهتماً بالشأن العام، ومعظمه من خلفيات يسارية، فقد وجد أن الانكفاء هو أفضل الحلول، وسارع في محاولة تعجيزية إلى طلب الضمانات من الثورة بألا تعيد الأمور للخلف، بمعنى أنها (الثورة) لن تُفقد تلك "الأقليات" ما قد حصلوا عليه من حقوق، وأنها لن تعيدهم إلى "ذمّيين" يدفعون الجزية، أو يدخلون الإسلام وهم صاغرون، وإلا فالموت أمامهم، متهمين الثورة بأن هناك من سرقها بعد عسكرتها وأسلمتها، وبالتالي كانوا خاضعين، بشكل من الأشكال، لخطاب النظام بأنه حامٍ للأقليات، وأن معارضيه إرهابيون ورجعيون.

ثمة تيار كان معارضاً للنظام في فترة الثمانينيات، وتعرض للسجن فترات طويلة، كما أنه معارض لتيارات الإسلام السياسي، وهو أمرٌ طبيعي ضمن صراعات الحياة السياسية، لكن هذا التيار، مع انطلاقة الثورة وتهديدها الجديّ للنظام الطائفي الأمني، وجد نفسه، تحت مبررات ضعيفة بعد دخول الفصائل الجهادية وارتكابها حوادث قتل طائفية مُدانة، ملتصقاً أكثر بسياسات النظام، إن لم يكن تجاوزها في بربريته وعدائيته تجاه كل تلك الكتلة الثائرة، واصفاً إياها بـ "حاضنة" الإرهاب، وداعياً إلى إبادتها فيزيائياً، كاشفاً زيف ادعاءاته بالتحرر والعلمانية والمساواة، وعمق انتماءاته الطائفية نفسها التي صوّرت له ذات يوم أن طائفته وطوائف غيره من الأقليات هي بطبيعتها علمانية وميالة نحو التحرر، أما البقية فليسوا سوى مرتع للتخلف والإرهاب.

نعم، إنهم مع التغيير، ولكن التغيير المشروط بأن تبقى السلطة ضمن طوائفهم.

ما طلبته تلك الطوائف من ضمانات هو شبه تعجيزي، فكل ما نادت به الثورة من وحدة الشعب السوري، وغيرها من الشعارات التي رفعتها في مظاهراتها لم يعطها أي شعور بالأمان، لكن شعاراً طائفياً رفعه بعض المخبرين تجاه المسيحيين والعلويين أصبح أيقونةً مقدسة، لتبرير الكثير من مواقفهم المخزية، وكم كان أجدى وأكثر نفعاً لو أن تلك الطوائف انتزعت ضماناتها بأيديها، من خلال مشاركتها في التظاهرات وفي كل فعاليات الثورة، كما فعل ذات يوم فارس الخوري.

إن ما نادت به الثورة من مطالب بالحرية والكرامة كان لكل السوريين، ولم يكن خاصاً بفئة أو جماعة، بل كان ضد النظام الاستبدادي وأركانه فقط، وكان الأجدى لمن تخيلوا أنفسهم أنهم فارس الخوري أو صالح العلي ألا يلجؤوا إلى الانكفاء وتوجيه الانتقاد والاتهامات، فهي ليست أكثر من قشور تفضح مدعيها اليوم وغداً، وإنما المشاركة الفعالة في كل فعاليات الثورة التي حاولت -وما تزال- أن تؤسس لوحدة وطنية حقيقية من دون استبداد وتمييز.

كلمات مفتاحية