نصف الكأس الملآن والعنكبوت

2019.11.10 | 17:02 دمشق

albnd_alawl.jpg
+A
حجم الخط
-A

عند التعامل مع شخص، أو مجموعة، أو منظومة عدمية هاجسها: "الكل أو لا شيء"، "أنا أو لا أحد"، أو "إن لم تكن لي، لن تكون لأحد"- والتي تجسّد الشعار الذي عمل به نظام الاستبداد خلال السنوات التسع الماضية: "أحكمها، أو أدمّرها"-يصبح تفكير المرء بنصف الكأس الملآن، أو القليل من التفاؤل، أقرب إلى الترف الفكري، أو اللاواقعية.

بلغ السوري حالة من اليأس في ظل استشراس ودموية وتَفَلُّت هذا "النظام" من كل إنسانية أو أخلاق أو مسؤولية، وفي ظل خضوع المنظومة الإنسانية والقانونية الدولية إلى حالة ارتهان لمصالحها المريضة. وصل إلى نقطة يرى فيها مجرد الجلوس مع القاتل وجهاً لوجه، والإطلال على تسع سنين عجاف بحضرة الأمم المتحدة، وبموجب قراراتها، بصيصاً من الأمل بأن عودة سوريا إلى سكة الحياة، ممكنة.

في جنيف مؤخراً، بصيص الأمل هذا عكّرته سردية، شكّلت جذر الإحباط والتيئيس؛ أتت على لسان أناس انفصموا أو فُصمو عن الواقع. تحدث هؤلاء في حضرة الأمم المتحدة موجهين كلامهم إلى (مَن يحدوهم بعض الأمل- أو مَن سمّوهم "الطرف الآخر") بأن "الجيش الباسل" لهؤلاء المنفصمين يحارب الإرهاب؛ وهو حقيقةً يقتل مواطنيه بالبراميل والصواريخ والطائرات، ويستعين على إخماد صرختهم بالحرية بميليشيات الإجرام والاحتلال.

عندما كان "مَن يحدوهم بعض الأمل" يتحدثون عن مضامين دستورية تليق بسوريا حرة كريمة؛ خرجت سرديات هؤلاء "المدعومين من الحكومة السورية" تطالب بإدانة الاحتلال؛ الذي لم يأخذ إذناً من حكومة الجمهورية العربية السورية كي يكون شرعيا؛ وللعلم، أتى هذا التدخل المطلوب إدانته منسقاً مع المتدخل عبر الروس الذين يحمون حكومتهم "الشرعية". ركّز "المدعومون من الحكومة" في خطاباتهم على رفع العقوبات الجائرة عن سوريا- ليس لأنها تخنق الشعب السوري، بل لأنهم يعتبرونها جزءاً من المؤامرة الدولية على نظامهم المقاوم الممانع- ومعروف أن أصحاب النظام المقاوم الممانع، لا يطالهم عَوَزٌ أو جوعٌ أو مرارٌ من تلك العقوبات؛ بل إنهم يعبثون بأي مساعدات دولية تُقَدَّم دولياً؛ وهم ذاتهم يحاصرون هذا الشعب الذي يتحدثون باسمه و"يتألمون" عليه.

تكسّر بعض الجليد وشيء من التكلُّس الذهني عند ثلثي الذين اجتمعوا في جنيف لمجرد الوجود تحت سقف واحد؛ لكن الثلث "المدعوم من الحكومة" استمر بالإشارة إليهما كـ "الطرف الآخر"

تكسّر بعض الجليد وشيء من التكلُّس الذهني عند ثلثي الذين اجتمعوا في جنيف لمجرد الوجود تحت سقف واحد؛ لكن الثلث "المدعوم من الحكومة" استمر بالإشارة إليهما كـ "الطرف الآخر". زاد "الداعم" الطين بلّة، عندما أشار الى هذين الثلثين في مقابلته التلفزيونية كأدوات وعملاء وإرهابيين. اضمحل التفاؤل عندما قال رئيس وفد "المدعومين" بأن سوريا دولة، وما هي بحاجة إلى دستور أو بناء من جديد. وحقيقة الأمر، لو كانت هكذا، لما حلَّت هذه السنوات المريرة؛ وبهكذا "داعم" و "مدعومين" ما مِن ضمانة بعدم تكرر الكارثة. 

مؤلم، ويجعل أي أمل يتبخر، إذا كان بعض السوريين يُسحبون غصباً إلى مهمة قد تساعدهم كخطوة باتجاه إنقاذ بلدهم.

طالما تبرأت حكومة الجمهورية العربية السورية من هذا الوفد، واقتصرت علاقتها به على "الدعم"؛ ليت هذا الوفد الكزبري يجرؤ على التصرف كسوري أو يفكّر ولو للحظة أخلاقيا، أو بشكل مسؤول كإنسان طالما تحدّث بالوطنية، ولتغنه سوريا عن هذا "الدعم"؛ فهذا الدعم بالذات هو الذي يجعل المرافعة عن منظومة أوصلت سوريا وأهلها إلى هنا شهادة زور وانفصام وانفصال عن وقائع وحقائق سوريا. إن لم يتوقف هذا الانفصام وهذه المرافعات عما لا يمكن الدفاع عنه؛ وإذا استمر هذا التمترس الانتهازي عند: /أنا أو لا أحد/، فالمأساة ستستمر.

من هنا، وإذا كان لهذا الكأس نصف الملآن أن يمتلئ، لا بد من القطع مع العبودية، والنظر إلى مصير أجيال سوريةٍ تستحق حياة حرة كريمة وعقداً قانونياً يليق بإبداعها وقدراتها.

الجرح السوري عميق، وغائر، وفي كل الاتجاهات، وعلى كل المستويات والأطياف؛ ندعو لتحمّل المسؤولية، ولو لمرة واحدة، من أجل أجيال تستحق التضحية، وبلد ما لنا غيره، وقلَّ نظيره

السوري يريد جهاز أمن يشعره بالأمان في بلد مصان من كل خطر؛ وخاصة خطر الحاكم، إذا استبد أو تغول بسلطته مخالفًا ذلك العقد الاجتماعي المقدس. يريد السوري جيشاً يعتز به؛ يصون الديار، ويزيل عنها الاحتلال. يريد رئيساً رمزاً للحرية والعدالة والعفة والحكمة والزهد، لا إلهاً بيده الرئاسة والتشريع والقضاء والجيش والأمن والاقتصاد والموت والحياة.

الجرح السوري عميق، وغائر، وفي كل الاتجاهات، وعلى كل المستويات والأطياف؛ ندعو لتحمّل المسؤولية، ولو لمرة واحدة، من أجل أجيال تستحق التضحية، وبلد ما لنا غيره، وقلَّ نظيره. ندعو لوضع سوريا وأهلها من جديد فوق كل اعتبار على سكة حياة حرة كريمة. الأمر بيدنا والعملية سورية- سورية؛ وهكذا، وبالجهود المضنية؛ وربما بغفلة من زمن مر تشارك به العدو والصديق علناً، ليتنا نلتقط هكذا لحظة.

إذا استمر هذا الحال في الصغر، والانفصام، وعدم تحمل المسؤولية، والاستهانة بهذه العظيمة سوريا وشعبها الكبير؛ فسيكون الخيار الأصعب. ومؤكد أن إرادة الشعب وحريته لن تقف في وجهها قوة مهما تغطرست أو استبدت. ليت هؤلاء "المدعومين" يعلمون أن بيت سيدهم آيل للسقوط بأسرع مما يتصورون. على كلٍ يبقى نصف الكأس الملآن قيمة إيجابية؛ والفارغ قيمة عدمية؛ ولا بد للإيجابي أن ينتصر على العدمي. إنه قانون الحياة.