نزار قباني في مئوية الولادة وربع قرن على الرحيل

2023.05.02 | 17:04 دمشق

نزار قباني في مئوية الولادة وربع قرن على الرحيل
+A
حجم الخط
-A

صعبة هي الكتابة عمن تحب.. صعبة هي في ذكرى الرحيل كتشبيهه الحب بـ(لحظات الموت والولادة) التي لا تعاد مرتين. مئوية الولادة مرت قبل أيام وكذلك الرحيل (30 نيسان) أتم فضّته بربع قرن من الزمان.

صعبة أكثر اختصار حالات حب وشغف ودراسة امتدت سنيناً وسنينا. فما بالك عندما تكون تلك الحالة أمام قامة شعرية عربية على وجه الخصوص، استمر نتاجها المثير لكل حالات الجدل والنقد، منذ أول عمل لها مطلع الشباب ليمتد على كل الساحة العربية، بكل مكوناتها وتطلعاتها وشرذماتها، لأكثر من نصف قرن، ولم يزل.

صحيح أنه يمكن أن تغرف من بحر، ولكن كيف تستطيع مهما أوتيت من مهارات، أن تقدم لغيرك ما ترتجيه في رحاب الذكرى. وصحيح أنه يمكنك الاتكاء على مقولة النفّري (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة) لكنك تبقى في حيرة أمام فيض من ينابيع ثرية التدفق وثرية المكنوز، فلا تجد مخرجاً سوى في ومضات إضاءة على بعض جوانب من كلٍّ متسع، وعمن تستطيع أن تزعم أنه ملأ الدنيا وشغل الناس في عصره، ربما أكثر مما كان المتنبي الذي أُطلقت عليه العبارة قبل نزار بألف عام، في أمة معجزتها لغتها، وشعرها ديوانها.

نزار والتجديد الشعري:

مظاهر التجديد في شعر نزار قباني كانت واضحة المعالم منذ ديوانه الأول (قالت لي السمراء) الذي أصدره عام 1944، وهو ما زال طالباً في كلية الحقوق بجامعة دمشق في الحادية والعشرين من العمر. أكثر تلك المظاهر تجلياً كان على صعيد موضوعاته بجديتها وجرأتها في مجتمع ما زال مغلقاً على كثير من الموروثات التي تمتد لمئات السنين، وعلى صعيد لغة بلاغتها وبساطتها في سهلها الممتنع الذي ما استطاع سواه بلوغه حتى ممن حاولوا بعد عقود تقليد اللغة أو النسج على المنوال ذاته، فكانت لغة العارف بأسرار اللغة وكنهها وتطويعها بعصرية رائدة.

جِدة الموضوعات وجرأتها واللغة العصرية كانت مثار كثير من الانتقادات، بعضها ساخر وجارح، لمن كانوا في الاعتبار (فطاحل) بين الأساتذة والنقاد حينذاك، كالنقد الذي وجهه الأستاذ الشهير علي الطنطاوي بسخرية لاذعة، في حين المتحمسون الذين وجدوا في الشاب الثائر على التقاليد استبصروا روح التوثب المبدع، كأستاذه في الحقوق السياسي الشهير (منير العجلاني). لعل ذلك الجدال الذي ثار منذ صدور المجموعة الأولى بين منتقدين رافضين وبين متحمسين مهللين، جعل نزار يضرب صفحاً عن الدخول في معركة أثيرت بعد سنوات ثلاث فقط من صدور مجموعته الأولى، حول الريادة في الشكل الجديد للشعر الذي استقر، بعد كثرة مسميات، على مسمَّى (شعر التفعيلة)، والتي دارت بين النقاد والشعراء لحصرها بين (نازك الملائكة) في قصيدتها (كوليرا) وبين (بدر شاكر السياب) في قصيدته (هل كان حبّاً) فكلاهما كتب قصيدته في العام 1947. أستطيع الزعم هنا، مستغرباً تجاهل النقاد والدارسين، وعدم الالتفات إلى قصيدة نزار قباني (اندفاع) الصادرة في ديوانه الأول المطبوع قبل تلك المعمعة بثلاثة أعوام، وهي الوحيدة في ديوانه التي كسر فيها عدد تفعيلات البيت التقليدي للشعر العمودي، ونوع فيها في القافية والرويّ على نحو أكثر مما فعله السياب ونازك!

هل مرد ذلك إلى عدم رغبة نزار في دخول معركة لا يرديها، أم لمعرفة بأن ذلك ليس ريادة من ثلاثتهم كما كشفه لاحقاً الباحث العراقي الدكتور أحمد مطلوب بوجود قصيدة منشورة في صحيفة عراقية منذ العام 1921 تعتمد كسر النمط التقليدي لبيت الشعر العمودي وتنوع القافية!؟. أم لسبب ثالث هو تأخر نزار عدة سنوات في اعتماد الشكل الجديد.

كل ما يمكن ذكره بعين المحب والحفاوة بمظاهر الريادة والتجديد عند نزار، لا يمكن أن يمر متغاضياً عن حقل تجريب حاوله نزار انسياقاً متأخراً مع المسمى الجديد (قصيدة النثر)، وهو ميدان ولجه متأخراً في أواسط سبعينات القرن الماضي عبر مجموعتين مطبوعتين، وبضع قصائد لم تضمها مجموعاته، والتي لا يتنازع أحد من الدارسين على أنها خلت، وإلى حد بعيد، ليس من التكثيف وبراعة اللغة فحسب، بل ومن إدهاش الصورة، إلى درجة يمكن القول معها إن المقالات الصحفية لنزار حفلت بشاعرية أكثر من تلك التجربة مع قصيدة النثر، ولعل ذلك ما أعاده إلى ميدانه بعد تجربتين.

مراحل نزارية:

لم يكن نزار في حياته الشخصية رجل ثورة بالمفهوم الشائع، فقد كان بشخصه أميل إلى الدعة والهدوء فيما كان في شعره، على الرغم من نرجسيته واهتمامه بتفاصيل المرأة، روحاً ثورية بشكيمة لا تهادن، اتضحت بداية في ثورته على كثير من الموروث الشعري والاجتماعي لتتحول لاحقاً إلى ثورة سياسية على الطغاة والنظم الحاكمة.

موضوعات نزار الأولى واتخاذه المرأة محوراً لمعظم قصائده، وإغراقه في التفاصيل الصغيرة لها وحولها، على مدى أكثر من عقدين، جعلت بعض متصدري ساحات النقد يحكمون عليه بأنه شاعر امرأة ووصف واستثارة، يفتقر إلى مقدرة أفذاذ الشعراء على النفاذ إلى الأعماق، ولكأن أولئك النقاد ما أجهدوا معارفهم بالاطلاع على غير النصف الأول للشعر النزاري وأهملوا نصفه الثاني وعقديه الأخيرين على وجه الخصوص. النقلة النوعية من شاعر تفنن في كل ما يخص المرأة، وعلاقته بها ومفهومه لها جسداً وروحاً وتفصيلات، مع بعض التلميحات الاجتماعية ودعوات لكسر قماقم التقاليد البالية، إلى شاعر غدا مسكوناً بالثورة، تجسدت إثر صدمة هزيمة المشروع النهضوي العربي الحالم الذي بدأ بعهود تغلفت بمظاهر التحرر والاستقلال، وسرعان ما انقلبت إلى مشاريع وشعارات رنّانة بقيادة عسكر من متوسطي الرتب وصغارها، طوَّعوا كل مفاهيم الدولة لمداركهم الضيقة وخبراتهم المحدودة، فأفضى الحال إلى كارثة هزت كل الكيانات بما فيها كل كيان شخصي. هزيمة عام 67 أحدثت نقلة نوعية في تعاطي نزار مع الشعر قضيةً، ولعل ذلك مرتبط ارتباطاً وثيقاً بنقلة نوعية في التوجه والمدارك، سابقة لتاريخ الهزيمة بعام، حين استقال من الحياة الدبلوماسية بعد صعود البعث لتصدر الحكم في سوريا، فكان للعامليْن الاستقالة ثم الهزيمة، مع نضج ما بعد الأربعين عمراً، أكبر أثر في انعطافة جديدة لاهتمامات الشاعر ودخول شعره معتركات الجهر بالمواقف السياسية، التي لا يمكن تسجيل أي موقف ايديولوجي عليها من شاعر رفض كل انتماء حزبي أو عقائدي وبقي حرّاً في التعبير عن نبض شارع معترض وشاعر رافض لكل زيف، لم يلوث قصائده وتاريخه بمدائح.

قد تبدو قصائد نزار في (هوامش على دفتر النكسة) أفضل تعبير عن تغيُّر في الوعي العربي العام، لكن الباحث في تطورات شعره سيجد أن التغير لم يكن ردة فعل آنيّة كما حدث مع كثيرين من شعراء وأدباء استجابوا للمرحلة مكتفين بآنيتها ثم عادوا أدراجهم الأولى. مصداقية نزار، مع ذاته أولاً ثم انتمائه، وتطور وعيه ومشروعه، مع تمسكه بالمرأة موضوعاً جوهرياً، أخذ في التصاعد وإن شهد محطات سكون كانت مستجدات الأحداث المتواترة مقرونة بتحول جديد في اهتمامات نزار الشخصية والشعرية واقترابه من الأحداث مكانياً بعد انتهاء تنقلاته في السلك الدبلوماسي كافية لتحريكها، كأحداث أيلول الأسود ووفاة جمال عبد الناصر (انتقده حيّاً وزعيماً ورثاه غائباً) ثم حرب تشرين 1973 التي ما إن أعادت بارقة أمل في الذات العربية وتطلعاتها حتى عادت للنكوص في مشروع السادات المتزامن مع حالة الاقتتال والتشظي التي شهدها لبنان وعاصمته بيروت، حيث اختار نزار الاستقرار في مدينة كانت قبل منتصف سبعينات القرن العشرين درّة الحريات، ومن ثم ما أفضاه استباحتها من مأساة شخصية لنزار تمثلت بمقتل زوجته وحبيبته وأم طفليه (بلقيس) في تفجير السفارة العراقية ببيروت، كل تلك الأحداث بقربها جعلت لحظة التحول تطبع أكثر من الربع الأخير لمسيرة نزار الشعرية بطابع ثوري مقاوم ستغذيه لاحقاً الانتفاضة الفلسطينية، وليعلو صوته أكثر في وجه الحكام الطغاة الذين ما توانى، على الرغم من دبلوماسيته الماضية ومسالمته الحياتية، في إلقاء قصائده الموجعة لهم في أماكن حكمهم وفي وجوههم وأتباعهم غير عابئ بالنتائج، كما حدث في آخر أمسياته في مكتبة الأسد بدمشق حين اضطر كل أزلام سلطة الأسد لترك الصالة هاربين من قصائده عن السياف والدكتاتور و(الديك).

في رحاب الذكرى وواقع العرب

مر ربيع هذا العام، في خضم ثورات عربية توقدت قبل اثني عشر عاماً وحملت استبشاراً تسمية (الربيع العربي) فانتكس معظمها من غير بلوغ زهره ولا صيف الحصاد، وقفز بعضها تجاوزاً إلى خريف ينذر بسقوط آخر الأوراق بعد مواسم خراب ما قصّر فيه كل المخربين من أبناء وأغراب. لم يكن وارداً، وسط كل خرائب البنيان والعمران والبلدان والنفوس، أن يرتجى احتفاء يليق بشاعر فذ ذي قامة مديدة وظلٍّ يمتد أكثر، في مئوية الولادة وفضّية الرحيل وإن كانتا ربيعيّتين، وإن كان صاحبهما من كتب (الشعر قنديل أخضر) لكنه ذاته من تنبأ باستبصار بمصائر شعب يهجّره الطغيان، فيتكدس على السفن وتتقاذفه أمواج بحار كأنها بلا شطآن، وتتجنبه قبائل الأقارب والأغراب في خذلان، ليكفر بكل شيء.

ثمة بقية أمل، على رغم سواد الواقع، وبين من هم أكثر ألماً، ومن أكثر من السوريين اليوم ألماً، فإن لم يرتجَ من منظومة الطغيان وزبانيتها أن تحييي ذكرى الشاعر في ذاكرة أجيال السوريين القادمة، وهو الذي رفض أن يسير مسؤول منها في جنازته، وحين تجاهلوا الوصية عرف محبوه كيف يخطفون النعش إلى مثواه غير عابئين بعاقبة أو وعيد، فكان تجاهل وتغييب بعدها لذكرى نزار عبر المناهج المدرسية ووسائل الإعلام، ولي في ذلك أكثر من شهادة حية عن رفض السلطات بث كل ما يتعلق بنزار، منها أول إحياء لذكرى نزار بعد عام من الرحيل، أقامتها بالتشارك جمعيتا (العاديات والشهباء) في حلب عبر ندوة ضمت ما يمكن من شهود عصره وحياته، وسجلت فيها مجموعة لقاءات وشهادات مع معظم المشاركين بشهاداتهم ومنهم شقيقته (هيفاء) والأديب الكبير الراحل الدكتور (عبد السلام العجيلي) الذي ذكر بأن أول قرار اتخذه عندما تولى وزارة الخارجية عام 1962 كان قرار نقل الشاعرين العاملين في السلك الدبلوماسي إلى المكان الذي يحفز إبداعهما ويثريه، وهو ما كان بنقل عمر أبو ريشة إلى الهند ونزار إلى إسبانيا وهي التي كانت باعتراف نزار (قصتي مع الشعر) أروع مراحله وأكثرها إبداعاً. ثمة شهادة جديدة ومجموعة وثائق ورسائل وصور لم تنشر بعد باللغة العربية يضمها كتاب عن المرحلة الإسبانية وما ألهم نزار وأسهم في تحولاته، كنت ومؤلفته نتعاون لإصداره في الذكرى والاحتفاء به داخل سوريا وضمن حاضنتها الثائرة لنقول للعالم المتحضر إن الروح الثورية، مهما أحاق بها الدمار. كارثة الزلزال أجلت المشروع، لكنها من جانب آخر ولَّدت مشروعاً أكبر لتوثيق في سلسلة مرئية، قد تكون عبر هذا المنبر، ولا بأس أن نتجاوز المئوية اضطراراً، لنحتفي بنزار بما يليق به من جديد بعد (مائة عام.. وعام).