نجيب المانع: ذكريات عمر أكلته الحروف

2019.12.12 | 15:08 دمشق

984.jpg
+A
حجم الخط
-A

ولد نجيب المانع في قرية الزبير القريبة من البصرة. يحكي عن طفولته بطريقة مشوقة إذ رأى عالمين من عوالم الطفولة في قريته، عالم الأطفال الذين يتعلمون العلوم الشرعية ويحفظون القرآن ويفهمون أدق قضايا النحو العربي، ويتبحرون في الشعر وأوزانه وتفعيلاته، ويمارسون المحاسبة ويدرسون الفقه والتفسير، وهناك الأطفال الذين يذهبون للمدرسة الابتدائية في البصرة ويلتزمون بدروس وزارة المعارف، تلك الدروس التي يصفها بأنها تلمس جرف الماء دون العوم فيه. وينبهنا إلى أن رؤيته لهؤلاء الأطفال في الزبير الذين يدرسون تلك العلوم الصعبة جعلته يكذب ما يتداوله علماء التربية من ترهات حول ضرورة التعليم المناسب للسن. حتى في الغرب كانوا قبل حمَّى الشهادات يحفظون الإلياذة والأوديسة في عمر مبكر، والسير القديمة ملأى بأناس مثل هؤلاء.

غادر نجيب البصرة لدراسة الحقوق في بغداد، وفي بغداد اكتشف أثر الحرب العالمية الثانية على نفوس العديد من الشعراء فيها، والذي أنبت في العراق أوراداً أخاذة الشكل والتلوينات ذات أشواك لذيذة فاخرة. يلاحظ نجيب المانع أن هؤلاء الشعراء احتضنوا الأسى والمعاناة وكتبوا - وهم شباب في العشرينيات من أعمارهم - كتباً ودواوين تشي بأنهم شيوخ أبهظهم الهم الأكبر، هم الوجود الثقيل، ومن عناوين دواوينهم المنبئة عن شعورهم بالغثيان أو استيائهم أو اسوداد دنياهم: "أزهار ذابلة" لبدر شاكر السياب و"خفقة الطين" لبلند الحيدري و"أغاني المدينة الميتة" و"أباريق مهشمة" لعبد الوهاب البياتي. وفي العراق ظهرت موجة رومنطيقية ثانية بعد الموجة الأولى لجماعة أبولو خلال الثلاثينيات في مصر، ويصفها بأنها ترى الصحة في المرض وترى الاضطراب النفسي هو الطريق المؤدي لمتانة الروح وبهائها، وكان من بين رافعي راية هذا التشويش الشاعر حسين مردان.

غادر نجيب البصرة لدراسة الحقوق في بغداد، وفي بغداد اكتشف أثر الحرب العالمية الثانية على نفوس العديد من الشعراء فيها

سيرة نجيب المانع مختلفة وشيقة. ليست سيرة ثرثارة أو مملة، فهو لا يسجل فيها إلا اللافت والمشوق، يقلل كاتبها من الحكي عبر خط مستقيم من الولادة والطفولة إلى الشباب والشيخوخة، يقفز بين فترة وفترة بخفة ورشاقة، يسجل ما يفكر فيه دون أن يهتم بالتتابع الزمني. يقف وقفة مع قلة تَغني الشعراء بجمال نهر دجلة، وقلة اللوحات التي صوّرت النهر، وينتقل بعدها إلى عدم تلذذه بالمقام العراقي في الموسيقا، فهو عسير على مشاعره ولا يستجيب له، على عكس أنواع الموسيقى أخرى، ثم يحكي عن فشله في المحاماة.

السيرة الذاتية مخاطرة في منطقتنا، فالكاتب يشعر بالحساسية ويتعذر عليه الحديث عن الأحياء، ومطلوب منه أن يسكت عن الأموات، فتأتي السيرة باهتة، ويبقى للكاتب استعراض الذات مما يجعل القارئ يسأم منه. من هذا التخوف ينطلق نجيب المانع محاولاً كسر حاجز الخوف من الصراحة في تدوين السيرة الذاتية.

صداقة مع السياب

إذا كان نجيب المانع نشأ في الجانب الصحراوي من البصرة، فقد نشأ بدر شاكر السياب في الجانب المائي منها، هناك قرب نهر شط العرب العريض. لذلك يفسر نجيب جريان الماء في شعر السياب مثل جريان المجد في شعر المتنبي. وفي بغداد توطدت العلاقة بينهما، يحكي لنا نجيب المانع عن قدرة السياب على حكاية النوادر الخاصة بأسرته وقريته جيكور التابعة لقضاء أبي الخصيب، وهي قدرة يصفها بأنها نادرة عند نظرائه من الكتاب والشعراء لا سيما في العراق. وكان السياب مهما يكرر حكايته فهي تروى رواية جديدة كل مرة، ويتفنن السياب في وصف ديوانية جده وزواره، ويعرفنا المانع على وجه آخر للسياب الشاعر الحزين الذي كان يمتلك قدرة فكاهية بديعة لا تكشف عنها أشعاره. عمل المانع والسياب بعد نيلهما الشهادة العالية، في شركة نفط البصرة، وكانا يعملان في أدنى درجات الوظيفة الكتابية إذ إن الإنجليز لم يأبهوا بشهادتيهما واعتبروهما مجرد ساعيين للحصول على مورد شهري. كانوا يطلبون منهما أن ينتظرا اللوريات التي تقلهما للشركة في الفجر والشمس لم تشرق بعد، وكانا في الطريق يريان لوريات أخرى تحمل خرافا، فكان المانع يقول "إن الخراف على الأقل تذبح مرة واحدة، أما نحن فنذبح كل يوم"، كان عملهما يرتكز في قسم المخازن ويتميز بالملل الشديد. ولنتصور شاعراً مثل السياب ثري الإحساس مفعماً بالحياة يعمل في مهنة متعبة، وفي الردهة شخص إنجليزي يشرف عليه. في تلك الردهة الصامتة، إلا من وشوشة البطاقات وطرقعة الطابعات، كان السياب يعثر على الصوت الذي لا يسمعة إلا الشعراء. وفي المذكرات فصل بديع يصف فيه المانع عبد اللطيف الشواف ويمدحه مدحاً رائعا في كرم أخلاقه ومروءته، والشواف سعى في مساعدة السياب أثناء مرضه، فهو الذي جعل عبد الكريم قاسم يمنحه نفقات السفر والعلاج في إنجلترا، لكن السياب لما سمع مقتل قاسم كتب قصيدة شامتة ليست من شعره الجيد، ويعلق المانع "المشاعر الرديئة لا تنتج فناً جيدا".

بين العقاد وطه حسين

تعرف نجيب المانع على كتابات العقاد وطه حسين ومع الوقت وجد عيوباً وثغرات لديهما، كلا الزعيمين الفكريين ينقصه أمران، الأول أن كلاً منهما بعيد عن المدرسة الأخرى، فطه حسين مثلاً لم تهطل على أراضيه أمطار شكسبيرية، والعقاد لم يغترف كثيراً من عطايا فرنسا؛ الأمر الثاني أن طه حسين نقل لنا شك ديكارت وسار على منوال الناقد الفرنسي "إميل فاجيه" الذي كان شعاره "ما ليس واضحاً ليس فرنسياً"، لذلك أكثر الأدب الفرنسي المعروف عن طريق طه حسين ينحدر من الواضحين أمثال ديكارت وموليير وفولتير، أما المزاج الباسكالي وأدب الظلال والزاويا المعتمة مثل لغة رامبو وبروست فلم يذكرهم طه حسين، لذلك لم يكن سفيراً وافي السفارة، أما التيار الأنجلوساكسوني والذي يمثله العقاد فيأخذ عليه المانع أنه محصور داخل أسوار كارلايل وكتَّاب النثر الإنجليز في القرن التاسع عشر بالدرجة الأولى، قرن الثقة بالنفس، الثقة بدوام الأشياء والحرص على تحسين الأمور. والعقاد حذا حذو الواثقين المتعالين، هكذا يحلله المانع في لمحات نقدية مميزة، ويصفه بأنه لا يحاور القارىء. ثم يقول نجيب المانع "إذا كان طه حسين ديكارتيا فهو لأنه يعطي القارىء فسحة في كتابته: كان يدعو القارىء إلى مائدته الفكرية، أما العقاد فيأكل طعامه الفاخر وحده تاركاً القارىء يشم الرائحة. إنني أتصور العقاد ملاكماً قديراً لا يرضى أن ينازله أحد لكي يظل ملاكماً قديراً وحده". وفي الكتاب مساحة لأخطاء العقاد لمن أراد التوسع فيها، وهذا لا يقلل من كون العقاد ناقداً فذاً مثلما يظهر في  كتابه عن ابن الرومي. وينتقد المانع لغة الزيات التي يراها باردة، ويرى نفسه يبتعد عنها كما يبتعد المرء عن انهيار ثلجي إن استطاع.

يقول نجيب المانع "إذا كان طه حسين ديكارتيا فهو لأنه يعطي القارىء فسحة في كتابته: كان يدعو القارىء إلى مائدته الفكرية

في الكتاب آراء للمانع في شعر الرصافي، وحديث عن رواية الحرب والسلم لتولستوي، وكفاحه في تعلم الإنجليزية والفرنسية ليقرأ بهما الأعمال الأدبية الكلاسيكية، وحديث عن البصرة وأماسي الأعظمية، وحديث مطول عن المجرم البريء دستويفسكي، هذا الذي وجد فيه المانع ترحيب بعض المدن لغزاتها المحررين، ففي علاقته بالمبدعين لم يقدم المانع مفاتيح المدينة إلا لاثنين: المتنبي ودستويفسكي، وعقدة المتنبي في نظر المانع هي كبرياء الوجود مع كبرياء الإنجاز، فأودع لديه كبرياء الوجود وحدها وترك كاتبنا محاولا الإنجاز.

الكتاب أقرب للسيرة الفكرية من السيرة الحياتية التفصيلية، تتمتع فيها بالنثر الجميل والوصف المميز، وقد نستعير من صلاح نيازي وصفه لنجيب المانع في سيرته: "حين يتحدث نجيب يغمر المقابل بطوفان، فإذا استطاب فكرة، يصغي كأنه لا يعرف شيئاً، يصغي إصغاء جاهل فضولي".