"نبع السلام".. الحكم بعد المداولة

2019.10.12 | 03:02 دمشق

20191010_2_38664188_48352236.jpg
+A
حجم الخط
-A

أخيراً أطلقت تركيا حملتها العسكرية تحت اسم "نبع السلام"، وتراوحت ردود فعل السوريين تجاهها بين مؤيد لأهداف الحملة المعلنة (طرد ميليشيات العمال الكردستاني) والممثلة بقوات قسد من المناطق السورية المحاذية للحدود، وبين مشكك بالعملية وواصفاً إياها بالاحتلال الذي يخفي أطماع تركيا، تتلخص بقضم مزيد من الأراضي السورية كما حدث بعد اتفاقية لوزان 1923، ثم ضم لواء الإسكندرونة سنة 1938.

يرى المؤيدون للتدخل التركي بأنه يأتي في إطار مصلحة مشتركة للسوريين والأتراك معاً، فتركيا تخوض حرباً مع حزب العمال الكردستاني منذ نحو 40 سنة، وهذا الحزب الذي حظي بدعم الاتحاد السوفيتي ونظام الأسد الأب بين عامي 1978-1998 تسبب بمقتل أكثر من 30 ألف مواطن تركي بين مدني وعسكري، إضافة لحرق وتدمير ما يزيد عن 3 آلاف قرية. ومع بدء الثورة السورية قام النظام السوري بالتحالف مع عناصر العمال الكردستاني، وتشكلت منهم ميليشيات تحت اسم قوات حماية الشعب YPG بشكل معلن، وبدأت تمارس نشاطها في الجزيرة وعفرين وعين العرب تحت رعاية ووجود النظام السوري، وتعززت قواتها بالهدنة التي وقعها العمال الكردستاني سنة 2013 مع تركيا، لينتقل آلاف المقاتلين إلى سوريا وشمال العراق.

لقد مارست القوات التابعة للعمال الكردستاني منذ بدء نشاطها مجدداً في سوريا، مجازر دموية بحق الأكراد والعرب في مناطق سيطرتها، وقامت بتنفيذ عمليات عسكرية مشتركة مع النظام خلال الفترة الممتدة من 2013-2016، ساهمت بتوجيه ضربات موجعة في خاصرة الثوار، وقتل عدد كبير منهم، واستعراض جثث عشرات من الشهداء على شاشات التلفاز في شوارع عفرين، في مشهد مؤلم وغير أخلاقي. كما قامت هذه الميليشيات بعمليات تهجير وحرق للقرى العربية بشكل واسع النطاق، شمل نواحي بأكملها (مثل ناحية الهول، ناحية الشيوخ)، إضافة لمئات القرى في أرياف الرقة ودير الزور والحسكة، وكلها جرائم وثقتها منظمات عالمية مثل منظمة العفو الدولية، وهيومن راتيس ووتش، وغيرها. ناهيك عن التدمير الشامل لمدينة الرقة ونواحي دير الزور، الذي ساهم بإفراغ المنطقة من سكانها، وتعرضهم لمآسي مجحفة وابتزاز مالي كبير بعد احتجازهم من قبل قسد، وكل ذلك حدث تحت شعار محاربة داعش، وذلك بالتحالف مع أمريكا التي منحت هذه الميليشيات اسمها الجديد (قوات سوريا الديمقراطية)، وبات الوجود الأمريكي مصدراً لاستقواء هذه الميليشيات، خاصة بعد فرض الولايات المتحدة الأمريكية حظراً جوياً شمل النظام السوري على مناطق شرق الفرات، فباتت الأفواج التابعة للجيش التي لا تزال تتمركز في القامشلي والحسكة، وكذلك العناصر الأمنية في المربعات الأمنية، لا تشكل قوة حقيقة يمكن لها أن تغير شيئا في الواقع، وباتت سيطرة قسد مطلقة في مناطق شرق الفرات.

قامت هذه الميليشيات بعمليات تهجير وحرق للقرى العربية بشكل واسع النطاق، شمل نواحي بأكملها (مثل ناحية الهول، ناحية الشيوخ)، إضافة لمئات القرى في أرياف الرقة ودير الزور والحسكة، وكلها جرائم وثقتها منظمات عالمية مثل منظمة العفو الدولية، وهيومن راتيس ووتش، وغيرها.

انتهاكات العمال الكردستاني (قسد) في مناطق سيطرتها، لم تقتصر على ما ذكرناه، بل إضافة لذلك كله، قامت هذه الميليشيات بالتالي:

  • فرض التجنيد الإجباري، أو الترغيب بالتطويع بعد إغلاق أبواب أمام الشباب وتشجيع الاتجار بالمخدرات، الأمر الذي تسبب بمقتل الآلاف من الشبان العرب الذين تم زجهم في الصفوف الأولى أثناء المعارك مع داعش.
  •  فرض قيود على السوريين من أبناء المحافظات الأخرى، الذين لم يسمح لهم بدخول منطقة الجزيرة شرق الفرات دون وجود كفيل كردي، كانت من الخطوات المستفزة جداً للسكان، خاصة وأن المنطقة ذات طابع عربي، يشكل الأكراد نسبة 12 بالمئة من سكانها.
  •  السيطرة على المدارس، وفرض منهاج مؤدلج يسوق لحزب العمال الكردستاني في سوريا، وتعيين أشخاص غير مؤهلين بالمسار التعليمي.
  •  تغيير واجهة المنطقة والمدارس والساحات العامة والقرى بمسميات كردية مستحدثة، ونشر أعلام ورايات العمال الكردستاني وفروعه، ورفع صور زعيم العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في جميع المرافق العامة، وغيرها من الممارسات التي ضاق بها سكان المنطقة ذرعاً.
  • الاعتقالات المستمرة، وتسليم بعض المعتقلين للنظام، والاغتيالات المستمرة التي طالت حتى السجناء.

من هنا، يمكن تفهم الرغبة الشديدة لسكان المنطقة، الذين يؤيدون العمل العسكري ضدّ العمال الكردستاني، الذي بدأ وجوده يتكرس عبر شبكة مصالح واسعة من المنتفعين، خاصة وأن المنطقة التي يسيطر عليها في سوريا، تضم أكثر من 75% من ثروات سوريا، وقد استغل هذا الحزب الغريب هذه الموارد لخدمة أجندته، التي لا ناقة للشعب السوري فيها ولا جمل، ولا تلتقي مع مصلحة الشعب السوري من بعيد أو قريب.

وإذا أردنا أن نكون موضوعيين في وصف ما يحدث، فإننا يمكن أن نقول بأنها معركة بين تركيا مع ميليشيا تركية تتحصن في الأراضي السورية، وهذا ما يبرر لتركيا أو يعطيها ذريعة للتدخل على الأقل

المعارضون للتدخل التركي بالمقابل، يبررون معارضتهم من منظور وطني، أي أن تدخل أي قوة عسكرية أجنبية هو احتلال، وعلى الرغم من أنني شخصياً أشاطر هؤلاء مخاوفهم من الأطماع التركية في الشمال السوري، إلا أنني أجد أنهم يبالغون في التعريض بالأتراك، وتصوير حزب العمال الكردستاني بالمقابل (كضحية، وطنية، سورية) لهذه الحملة العسكرية، فهذه مغالطة يجب تصحيحها، وإذا أردنا أن نكون موضوعيين في وصف ما يحدث، فإننا يمكن أن نقول بأنها معركة بين تركيا مع ميليشيا تركية تتحصن في الأراضي السورية، وهذا ما يبرر لتركيا أو يعطيها ذريعة للتدخل على الأقل، خاصة وأن هذه الميليشيا كانت تحتمي بالأمريكان، وتتلقى دعماً أوروبياً وإسرائيلياً سخياً، وقبل ذلك كان دعمها من النظام وإيران وروسيا.

لم ولن نقول بأن التدخل التركي جاء كرما لعيون الشعب السوري، ولن نراهن كذلك على أن التدخل سيكون مضمون النتائج كما يريده الشعب السوري، خاصة مع التوافق الأمريكي-الروسي المريب حول دعم العملية التركية، الأمر الذي يفتح باب التساؤلات عن المستفيد من هذه العملية غير الأتراك، فإذا كان المستفيد هو الشعب السوري فهل نصدق أن روسيا وأمريكا تدعمان أي خطوة لصالح الشعب السوري؟ الجواب من خلال سنين الثورة السورية "كلا" بالطبع، إذن هل الضمانة التركية التي قبل بها كل من الروس والنظام هو عودة النظام لمنطقة شرق الفرات، بعد القضاء كلياً على قوات قسد؟ وهل هذا بالضبط ما جعل الفوج 54 في القامشلي، وفوج الحسكة، لا يبادران بأي تحرك بعد بدء العملية التركية؟ بل زيادة على ذلك وجه المقداد خطابا شديد اللهجة إلى قسد، أكد من خلاله أن النظام لن يستجيب لصرخاتهم بالنجدة، لأنهم خونة وعملاء للأمريكان (على حد وصفه). وبالتالي يبدو أن النظام ضمنياً أيضاً مرحب بالعملية!.

خلاصة ما أود قوله: إن قسد قدمت جميع المبررات لتدخل تركيا، وقدمت كذلك جميع المبررات لسكان المنطقة للقبول بأي عمل يخلصهم من هذه الميليشيات، ويتوجب على قوى المعارضة السورية بشكل خاص، بأن لايقفوا مكتوفي الأيدي، وأن يكون دورهم في الموضوع، لا يقتصر على المشاركة العسكرية لبعض الفصائل المرتبطة على ما يبدو بشكل مباشر مع تركيا، بل يجب أن يكون لديهم دور سياسي وإداري، ويكونون جاهزين مع أبناء المنطقة لإدارتها وملء الفراغ، وعدم ترك ذريعة أمام المجتمع الدولي لدخول النظام للمنطقة، لأن ذلك سيكون كارثياً على الجميع، وكأنك يا أبو زيد ما غزيت.