icon
التغطية الحية

ناشونال إنترست: تركيا أفضل الخيارات السيئة للانسحاب الأميركي من سوريا

2022.06.01 | 18:04 دمشق

مركبات للجيش الأميركي في سوريا
مركبات للجيش الأميركي في سوريا
ناشيونال إنترست- ترجمة وتحرير: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

حان الوقت لانسحاب الولايات المتحدة من سوريا، إذ فقدت المشاركة في هذا النزاع قيمتها الاستراتيجية بالنسبة لواشنطن منذ أمد بعيد، بعد النصر العسكري الذي كلف الكثير الذي أحرزه بشار الأسد، وبعد هزيمة تنظيم الدولة في تلك البلاد في آذار 2019. ولذلك خسرت الولايات المتحدة نفوذها في دعم حل سياسي للنزاع عندما دفع التدخل العسكري التركي في تشرين الأول 2019 لانسحاب أميركي من كامل الشريط البري الضيق الذي يحتوي على حقول نفط في سوريا، ضمن ما يعرف باسم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا. كما أن القرار الأميركي القاضي بتسليح قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، قد استبعد باقي المكونات في المنطقة، كما وحد ولو لفترة مؤقتة الأعداء التاريخيين وهم روسيا وإيران وتركيا. يعاني اليوم ما يقارب من 900 جندي أميركي ظلوا في سوريا من ضعف شديد، بما أنهم أصبحوا محاطين بمقاتلين معادين لهم وموالين لإيران في الغرب والجنوب والشرق، ومن الشمال هنالك الفصائل المدعومة تركياً والتي تشارك في تبادل إطلاق أعيرة المدفعية بصورة شبه يومية مع حلفاء واشنطن، من قوات وحدات حماية الشعب. أي أن الرحيل عن سوريا لن يحمي أرواح الأميركيين فحسب، بل سيضع خصوم الولايات المتحدة في مأزق عند رحيل العدو المشترك في النزاع السوري.

قامت السياسة الأميركية الضمنية في سوريا منذ هزيمة تنظيم الدولة هناك في آذار 2019 على تأسيس "دولة كردية" في شمال شرقي سوريا لتتحول إلى حصن لصد أي تنظيم جهادي سلفي قد يظهر مستقبلاً، ولمنع شحنات الأسلحة القادمة من إيران من الوصول إلى لبنان وجنوب شرقي سوريا حتى تستخدم ضد إسرائيل. بيد أن فشل ذلك النهج تجلى عدة مرات، كان من بينها بقاء تنظيم الدولة في سوريا متجسداً بمخيم الهول للاجئين الذي تحرسه القوات الأميركية ووحدات حماية الشعب. إذ داخل هذا المخيم الذي يؤوي 62 ألف نسمة، معظمهم من زوجات وأبناء المقاتلين السابقين في تنظيم الدولة، تم تنظيم حلقات لتلقين مبادئ تنظيم الدولة لنزلائه، كما تم التأسيس لحكم هذا المخيم بطريقة تتماشى مع الفكر المتطرف لتنظيم الدولة. ثم إن المداهمات المتقطعة التي تشنها وحدات حماية الشعب الكردية على هذا المخيم لم تفلح في إبعاد سيطرة تنظيم الدولة على المحتجزين فيه، كما لم تستطع الولايات المتحدة أن ترد وذلك بسبب قيود داخلية وأخرى قانونية خارجية تفرض على سلوكها تجاه مقاتلين أجانب محتجزين هناك.

كما أن آمال واشنطن بقيام دولة "كردية سورية" قد أحبطت بسبب المحاولات التي تنم عن عدم كفاءة أبدتها قوات حماية الشعب عند حكمها لتلك المنطقة. إذ بالرغم من انتشار المجاعة والقحط وانقطاع الكهرباء في عموم أنحاء سوريا، إلا أن كل ذلك ظهر بصورة أشد في المناطق الخاضعة لحكم وحدات حماية الشعب، وقد فشل المجلس التشريعي الذي يحكم المناطق التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب هو أيضاً في تنفيذ إجراءات تهدف إلى معالجة تلك المشكلات في عام 2021، متذرعاً بمشكلات تتعلق بالميزانية. وهكذا تحولت الاضطرابات وأعمال الشغب المناهضة لإدارة وحدات حماية الشعب إلى أمر مألوف في مناطق الإدارة الذاتية. إذ أنه من المحزن أن نراقب ضعف تمثيل جميع المكونات في المجالس المحلية والأجهزة الأمنية، أي أن وحدات حماية الشعب أصبحت تقلد أساليب الأسد القمعية لإسكات المعارضين. وفي نهاية المطاف، لم يتحقق الهدف الأميركي المتمثل بمنع شحنات السلاح الإيرانية من عبور سوريا، بعدما أصبحت الضفة الجنوبية من نهر الفرات مخزناً للذخيرة الإيرانية، وقد استخدم عملاء إيران تلك الأسلحة في الضربات التي استهدفت القوات الأميركية وضد إسرائيل أيضاً.

الانتصار الأميركي عبر الانسحاب من سوريا

مسارعة المنتقدين لوصف النزاع السوري بالصراع جعل كلاً من الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب تتخندق سوية ضد تحالف يضم روسيا وإيران وتركيا ونظام الأسد، ومن تبقى من عناصر المعارضة السورية. ولكن في الواقع، تعتري تلك الشراكة انقسامات استراتيجية لابد وأن تتمخض عن نزاع بين الأطراف المختلفة في هذه الحرب في حال انسحاب الولايات المتحدة، وذلك لأن روسيا وإيران، بما أنهما أعتى حلفاء الأسد، وأشدهم قوة، تختلفان بشدة على من هو الأولى بالتحول إلى أشد عنصر فاعلية وتأثيراً في سوريا بعد انتهاء النزاع. أما تركيا فما تزال الطرف الوحيد الذي بقي يطالب برحيل الأسد، بالرغم من أن أنقرة قد تفضل أن تحل الفصائل المعارضة الإسلامية محله. والأسد يحتاج للمال حتى ينشر الاستقرار في سوريا، إلا أن بحثه عن شركاء في أوروبا وبين دول الخليج قد يؤزم علاقاته مع روسيا وإيران. كما أن الحرب بين الأسد والمعارضة السورية ماتزال قائمة في إدلب التي تعتبر أبلغ دليل على أن ما سيقوم بين روسيا وإيران وتركيا مستقبلاً هو نزاع وليس تعاوناً.

يشير المدافعون عن إبقاء القوات الأميركية في سوريا إلى سجل روسيا وإيران وتركيا الضعيف في محاربة الجماعات السلفية الجهادية في سوريا، إلا أن المشكلة من هذا المنظور، بعيداً عن الحقيقة القائلة إن تنظيم الدولة يمثل مشكلة كبيرة خارج حدود سوريا، تتلخص في أن الدول الثلاثة لديها سبب ومبرر لمنع تنظيم الدولة من الظهور مجدداً، كما أن عدم إعادة تأهيل سوريا ما هو إلا ضربة لقدرة تلك الدول على طرح بديل معقول عن القيادة الأميركية. وعلى مستوى أشد واقعية، تعتبر عملية تقويض الوجود الأميركي في سوريا بمثابة مجازفة خطرة بالنسبة لكل دولة من تلك الدول، إذ من دون التدخل الأميركي، ستتوفر أمام تلك الحكومات المزيد من الموارد المتاحة لمحاربة بعضها البعض، ولمحاربة تنظيم الدولة أيضاً. ولهذا علينا أن نتذكر بأن تلك الدول تتمتع بنظام أمني قوي، وهذا ما يجعلها مناسبة أكثر من الولايات المتحدة لحل تلك المشكلة التي تتصل بمخيم الهول الخاضع لإدارة تنظيم الدولة.

لابد من تنسيق أمور خروج القوات الأميركية من سوريا، ولابد لذلك من أن يخلف فراغاً في السلطة في الأطراف القصية من المنطقة الشرقية بسوريا. إذ تسيطر الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب على محافظة الحسكة الواقعة في أقصى جنوب شرقي سوريا، وعلى الجزء الشمالي من محافظة دير الزور شرقاً. لذا يرجح أن تقوم إيران باحتلال دير الزور على الفور، ما يترك مصير الحسكة مفتوحاً حتى يتم تقريره. وبالنسبة لواشنطن، تعتبر تركيا خياراً صعباً لكنه منطقي بوسعه أن يحل محل القوات الأميركية في سوريا، إذ لدى أنقرة دوافع عديدة للسيطرة على المزيد من الأراضي السورية، منها أن تركيا تزعم بأن الحسكة تاريخياً تعود إلى الميثاق الوطني الموقع في عام 1920، أي أنها تمثل الحدود التي وضعها آخر برلمان عثماني قبل حله، لذا فإن احتلال هذه المنطقة قد يتحول إلى انتصار بالنسبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي سيترشح مجدداً للانتخابات في عام 2023، إذ عموماً تسهم العمليات المناهضة لحزب العمال الكردستاني في زيادة شعبيته، وهذا ما يحتاجه بالفعل في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بتركيا في الوقت الراهن.

أفضل الخيارات السيئة

أصبح الموقف العام تجاه تركيا في واشنطن، خاصة عقب معارضة أردوغان مؤخراً لمحاولة السويد وفنلندا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، سلبياً إلى أبعد حد. وهذا ما دفع مراكز الأبحاث والصحف الكبرى للمطالبة بإخراج تركيا من حلف شمال الأطلسي، على اعتبار أن تركيا حليف موال لروسيا، إلا أن تلك المراكز والصحف أخطأت في ذلك، وذلك لأن الطبيعة الحقيقية للتحالفات التي تعقدها أنقرة أشد تعقيداً، ولهذا لابد من دراستها ضمن سياقها التاريخي. إذ أنه منذ أواخر أيام الحقبة العثمانية، أدرك الحكام الأتراك بأنهم أصبحوا ضعفاء  أمام القوى الكبرى، وهذا ما دفع السلاطين وبعدهم الرؤساء إلى تبني سياسة خارجية قائمة على رد الفعل، والتحالف مع كل من يبدي استعداداً لحماية المصالح التركية في الوقت الراهن. فقد حمت بريطانيا العظمى تركيا من هجمات روسيا القيصرية في منتصف القرن التاسع عشر. وعندما فشلت لندن في الإبقاء على الممتلكات العثمانية في كل من أفريقيا ودول البلقان، وجهت الإمبراطورية العثمانية أنظارها نحو ألمانيا، وذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بفترة قصيرة. أما الجمهورية التركية فقد أرسلت جنودها ليحاربوا إلى جانب الولايات المتحدة في كوريا في عام 1950، ثم انضمت إلى حلف شمال الأطلسي في عام 1952، حيث أتى ذلك كردة فعل تجاه تصريحات ستالين التي زعم فيها بأن مضيق الدردنيل ملك للاتحاد السوفييتي.

بقيت روسيا أكبر خطر خارجي يهدد تركيا حتى عام 2015، وذلك عندما قررت الولايات المتحدة تدريب وحدات حماية الشعب وتسليحها. وعلى الرغم من كل التهديد والوعيد الذي أطلقه أردوغان، إلا أنه كان محقاً عندما وصف تلك الوحدات بأنها نسخة مخففة من حزب العمال الكردستاني، المصنف كتنظيم إرهابي أجنبي لدى كل من الولايات المتحدة وتركيا. وذلك لأن عناصر حزب العمال يحتلون المناصب العليا لدى وحدات حماية الشعب، وهذا التنظيم يخضع لتوجيهات من قبل مقر قيادة حزب العمال الكردستاني، وتعتبر أيديولوجيته الأساسية متجذرة في تعاليم عبد الله أوجلان مؤسس حزب العمال. كما أن المحاور الرئيسي الذي يلعب دور الوساطة بين الولايات المتحدة وقوات وحدات حماية الشعب الكردية فهو مظلوم عبدي، الذي كان عضواً في حزب العمال منذ تسعينيات القرن الماضي، وهو أيضاً صديق لأوجلان. أي أن هذين التنظيمين متشابكان للغاية لدرجة أنهما يقومان بتبديل القوات بينهما في العراق وسوريا بناء على المنطقة التي تركز عليها تركيا في العمليات التي تطلقها لمكافحة الإرهاب.

قد يخشى كثيرون من فكرة تشجيع القوات التركية على ملء الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الأميركي، وهذا التخوف مبرر، وذلك لأن  الحقيقة المرة هي أن "الدولة الكردية" في سوريا ليست قابلة للحياة، لأننا إن استثنينا نهر الفرات في الجنوب، فسنجد بأن هذه المنطقة مغلقة وتفتقر إلى حدود طبيعية. كما أن سكان تلك "الدولة" محصورون بالأصل ضمن ثلاثة كانتونات في الشمال السوري، بيد أن هذه المنطقة صغيرة ولا تستوعب قيام دولة إثنية فيها. وبوجود قسم متبق من حزب العمال الكردستاني، لن يتمكن أي كيان سياسي تابع لوحدات حماية الشعب من إقامة علاقات قائمة على التبادل التجاري مع تركيا أو مع الحكومة في كردستان العراق الموالية لتركيا، بما أن هاتين الدولتين تعتبران أهم سوق نظراً لعلاقة تركيا بأوروبا، ولقدرة كردستان العراق على الحصول على النفط. لذا وبكل أسف، إن أفضل مستقبل ينتظره "أكراد سوريا" يتمثل بالتصالح مع النظام، وذلك لأن العودة إلى حضن النظام سيمنحهم حماية روسية وإيرانية، بما أن كلاً من روسيا وإيران لا تعاديان وحدات حماية الشعب كما تعاديها تركيا.

إن عودة شمال شرقي سوريا للسيطرة التركية يعتبر أبلغ رد على بعض الأميركيين الذين يعتبرون تركيا خصماً، وعلى أولئك الذين يجدون الشراكة مع تركيا ضرورية، على الرغم من صعوبتها، وذلك في ظل وجود تحديات ومخاطر أكبر، أهمها روسيا. إذ عندما نفكر بروسيا علينا أن نفكر بحقول النفط السورية التي تديرها وحدات حماية الشعب بشكل رديء، إذ كانت سوريا تنتج 380 ألف برميل من النفط يومياً قبل الحرب، إلا أن تلك الحقول لم تعد تنتج أكثر من نحو 25 ألف برميل في ظل سيطرة "قسد" عليها. لذا فإن تسليم السيطرة على تلك الموارد لتركيا سيكون بمثابة هدية لها، كما سيقوض أهم مسألة تمارس فيها روسيا نفوذها على أنقرة من خلالها. ففي الوقت الذي يتفاقم فيه الوضع الإنساني في المناطق الخاضعة للإدارة الذاتية، توزع أنقرة وبكل سخاء مساعدات إنسانية في المناطق السورية الخاضعة للسيطرتها والجيش الوطني. ثم إن المليارات السبعة والستمئة مليون دولار التي صرفتها أنقرة على المساعدات وعلى عمليات إعادة التوطين الناجحة لبعض اللاجئين السوريين لديها تشهد على التزام أنقرة بنشر الاستقرار ولو بشروطها.

أما بالنسبة للنواب في الكونغرس الأميركي وللمسؤولين في وزارة الدفاع الأميركية، بما أنهما تعاديان المصالح التركية، تعتبر مسألة منح تركيا المزيد من الأراضي في سوريا بمثابة نقمة وليس نعمة، وذلك لأنه من المرجح بالنسبة لوحدات حماية الشعب، في حال حدوث انسحاب أميركي من سوريا، أن تعقد اتفاقية مع نظام الأسد لإنهاء حكمها السياسي الذاتي، وهذا ما سيتيح لقواتها العودة إلى صفوف جيش النظام. لذا فإن احتمال عودة الآلاف من المقاتلين المتمرسين المعادين لتركيا إلى صف الأسد يعتبر بمثابة كابوس بنظر أنقرة، وذلك لتوتر العلاقات بين النظام وتركيا منذ أمد بعيد نظراً لأن النظام سمح لمقاتلي حزب العمال، وكان بينهم أوجلان نفسه، بالإقامة في سوريا. كما أن الأسد لن يتخلى عن رغبته باستعادة كامل الأراضي السورية، لذا لابد وأن يرد بهجمات تشنها وحدات حماية الشعب السابقة على القوات التركية المتمركزة في سوريا وذلك لإجبارها على الرحيل. وبوجود احتمال مماثل من قبل المقاتلين الموالين لإيران، قد تواجه تركيا أموراً أقلها تمرد من قبل أطراف عديدة يتجاوز حدود قدرتها على إدارته.

لقد تمدد الجيش التركي في سوريا منذ زمن، بوجود عساكر تتراوح أعدادهم ما بين ثمانية وعشرة آلاف متمركزين في الداخل السوري. إلا أن تلك الأعداد لن تكفي، حتى بوجود دعم من قبل الفصائل السورية، لتأمين 5473 كلم مربع من الأراضي التي تسيطر عليها. كما ستضطر تركيا لصرف المزيد من الموارد هناك لصد جهود روسيا وإيران والنظام مجتمعين والتي تسعى لإخراج القوات التركية من سوريا، إذ ستصبح تركيا العدو المشترك لتلك الدول كما ستتعرض لما هو أشبه بحروب البلقان التي قامت في مطلع القرن العشرين، أي ذلك النزاع الدموي الذي أنهك الإمبراطورية العثمانية وتركها عرضة للتقسيم الاستراتيجي قبل فترة قصيرة من اندلاع الحرب العالمية الأولى. لذا، إن كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي يعتبرون تركيا شريكة تستحق الاحتفاظ بالشراكة معها، بما أن تعداد جيشها ومساهماتها في ميزانية حلف شمال الأطلسي تشير إلى أنها جديرة بذلك، عندها سيصبح وضع تركيا في موضع نزاع مع روسيا من صالح أميركا وحلفائها، لذا فإن كل ما يتطلبه الأمر هو أن تنهي الولايات المتحدة تلك الحرب الأبدية التي تعمل على دعم ذلك التنظيم الشيوعي.

  المصدر: ناشيونال إنترست