ناجٍ من المقصلة.. خلاصات

2021.05.22 | 05:41 دمشق

jswr.jpg
+A
حجم الخط
-A

تسهيلاً للتناول، سأرتب الخلاصات التي خرجتُ بها لدى قراءتي كتاب محمد برو، "ناج من المقصلة"، ضمن التسلسل الآتي:

أولاً- اعترضتني، لدى مباشرتي قراءةَ الكتاب مشكلة لا تخص الكتاب نفسه، بل هذا النوعَ من الكتب التي تسرد وقائع وتفاصيل مما كان يجري في سجون حافظ الأسد من اضطهاد، وعدوان قاس ومستمر على إنسانية السجناء، واستهتار بحياتهم، وما يخلفه هذا الاضطهاد غير المسبوق في نفس السجين الذي يبقى على قيد الحياة، من جروح، ورضوض، وكدمات جسدية ونفسية.

تتلخص المشكلة في وجود ما يُصطلح على تسميته: "وحدة الأثَر". بمعنى أن المرء، وهو يتهيأ لفتح كتاب من هذا النوع، يكون مستعداً – على نحو مسبق - لمطالعة ما لا يحسب الحاسبُ من حكايات التنكيل والاضطهاد.. فهذه الأماكن التي أنشأها حافظ الأسد، وخصصها لقتل روح التمرد والرفض لدى الشعب السوري، تتشابه في الخطوط العريضة، وتتباين في كثير أو قليل من التفاصيل، والكاتب المتميز (محمد برو كاتب متميز بالفعل) هو الذي يفاجئك بالتقاطات ذكية، وحكايات واقعية غريبة، ويحاول، بين الحين والآخر، الخروج من ساحة "وحدة الأثر"، مما يجعل القارئ يعثر في كتابه على متعة لا تضاهى، متعة على خلفية من الأسى والمرارة بالطبع.

ثانياً- ما يتميز به محمد برو، برأيي، أمران؛ اللغة المُخَلَّصَة من الحشو والنوافل، بالإضافة إلى التشويق.. والحق (مع أنه لا يوجد أحد على وجه هذا الكوكب يعرف ما هو الحق) يجب أن يُقال، أن الأمر يلتبس على قارئ الكتاب مراراً، إذ يتهيأ له أنه يقرأ رواية لكاتب متمكن، رواية لا تختلف عن غيرها من الأعمال الروائية الهامة إلا بكون بطلها "محمد بن خالد برو" الذي يروي الأحداث، هو نفسه "محمد بن خالد برو"، السجين الصغير "الوظووظ" الذي يشب ويترعرع وراء القضبان، وتنقله السلطات الأمنية المجرمة من معتقل إلى آخر، ومن قاووش إلى آخر، حتى تنتهي ثماني السنوات، بأيامها ولياليها الطويلة، في سجن تدمر الذي يجل عن الوصف، ويصعب على مَن لم يزره أن يتخيله. (للسجن تتمة، أمضاها محمد في سجن صيدنايا، ووعدنا أن يخصص لها حديثاً آخر).

يذكر لنا أسماء مرتكبي المجازر، وأوصافهم، وتواريخهم، والمراتب الإجرامية التي تدرجوا فيها

ثالثاً- الشيء المختلف عند محمد برو، ويسجل لصالحه، أنه لم يقتصر على وصف تجربته في المعتقلات (أمن الدولة بحلب- السجن المركزي بحلب- سجن تدمر- ومحكمة أمن الدولة بحمص)، بل قدم لنا إحاطة واسعة بمتعلقات جرائم الإبادة الفردية والجماعية الأسدية التي بلغت ذراها بعد عملية مدرسة المدفعية التي ارتكبها "جناح الطليعة المقاتلة" المنشق عن جماعة الإخوان المسلمين، فيصف لنا، على نحو يبدو موثقاً، كيف كانت حلب في أوائل الثمانينيات مدينة محتلة، ويسرد وقائع مجزرة السليمانية، ومجزرة المشارقة، وبعدهما مجزرة سجن تدمر، ومجزرة حماة، بالإضافة إلى الحالات التي كانت تحصل في سجن تدمر حيث يُعذب السجين أمام زملائه في ساحة السجن حتى الموت، كما حصل مع أحمد طوير، وخلدون، وغيرهما.. ولا يكتفي بذلك، بل يذكر لنا أسماء مرتكبي المجازر، وأوصافهم، وتواريخهم، والمراتب الإجرامية التي تدرجوا فيها.

رابعاً- كانت فترة الثمانينيات مرتعاً خصباً للمجرمين، والوسخين، والمتسلقين المنحطين الذين أرادوا أن يجمعوا ثروات، أو يبنوا أمجاداً، أو يصفُّوا حسابات شخصية مع أناس تفوقوا عليهم في يوم من الأيام، مثلما حصل مع الطبيب الذي كتب تقريراً بزميله، لأنه أحب فتاةً ولكنها أحبت ذلك الزميل، فأرسله، بتقرير كيدي إلى سجن تدمر، وطلب نقله إلى هناك لكي يلتقيه، ويهينه، ويعذبه حتى الموت.. وثمة في الوقت نفسه، التماعات يمكن أن تشكل بصيص أمل، كوجود رقيب متعاطفٍ إنسانياً مع المعتقلين، يخفف عنهم العذاب، ويهمس لهم: بيفرجها الله يا شباب، بيد أن هذا الوميض لا يدوم طويلاً، فسرعان ما يكتشف الجلادون تعاطفَ الرقيب مع المعتقلين، ويقتلونه على مرأى الجميع.    

خامساً- قرأنا، قبل هذا، كتباً أو مقالات تتحدث عن سجني تدمر وصيدنايا، ومعتقلات أخرى متفرقة، كتبها مناضلون من حزب العمل الشيوعي، أو من المكتب السياسي للحزب الشيوعي (مجموعة رياض الترك)، مثل بسام يوسف، وغسان الجباعي، وفرج بيرقدار، وكنا قد تلقينا الصدمة الأولى برواية "شرق المتوسط" للأديب السعودي عبد الرحمن منيف، بالإضافة إلى كتاب مصريين وعراقيين أبدعوا فيما اصطلح على تسميته "أدب السجون"، عدا عن الأعمال المترجمة، كرواية "أنت جريح" للروائي التركي أوردال أوز، وكتاب صوم الموت الذي ترجمه المرحوم عبد القادر عبدللي.. وكان فرج بيرقدار يقول لنا إن الاضطهاد الذي تعرضنا له نحن الشيوعيين، على فظاعته، ليس إلا "لعب عيال" أمام الفظائع التي كانت تُرتكب بحق الإسلاميين.

الراوي هنا، محمد برو، ليس إسلامياً بما تحمله هذه الكلمة من معنى، ولكنه اعتقل، وهو في السابعة عشرة من عمره، بتهمة حمل مجلة النذير العائدة للإخوان المسلمين، وتداولها مع بعض زملائه، وبعد ذلك أمضى فترة السجن الطويلة بين الإسلاميين على اختلاف أطيافهم، إذ كان السجناء، بحسب ما يروي محمد، عندما تسنح لهم الظروف الرهيبة، يحفظون سوراً من القرآن، وبعض الأحاديث النبوية، وتحتدم في بعض المهاجع نقاشات فكرية بين معتدلين يمثلون "الإسلام الشامي"، ومتطرفين، يمكن اعتبارهم تكفيريين..

سادساً- لا يختلف عاقلان، أو مجنونان، أو خَرِفَان، على أن نظام حافظ الأسد هو الأكثر إجراماً، ودموية، وإرهاباً، وطائفية، وقذارة، في العالم كله، ومحسوبكم، كاتب هذه المقالة، يعتقد أن نظام صدام حسين كان الوحيد الذي يشبه نظام حافظ إلى حد التطابق.

جماعة الإخوان المسلمين السورية هي المنبع الأساسي للحركات الإسلامية المتطرفة، وهي في الوقت ذاته، تحاول تمثيل الإسلام المعتدل

ومع ذلك؛ فإن قارئ كتاب "ناج من المقصلة" لا بد أن يخرج بثلاث خلاصات، أرى أنها مهمة للغاية.

الأولى: أن جماعة الإخوان المسلمين السورية هي المنبع الأساسي للحركات الإسلامية المتطرفة، وهي في الوقت ذاته، تحاول تمثيل الإسلام المعتدل، بدليل أن "الطليعة المقاتلة" انشقت عن التنظيم سنة 1977، وقامت بعملية المدفعية في صيف 1979.. (مع الإشارة إلى أن الجماعة استنكرت، ببيان رسمي، إعلانَ وزير داخلية نظام الأسد الحربَ على الجماعة، وهي بريئة من العملية، ومن الطليعة المقاتلة).        

الثانية: أن هناك حركات ذات طبيعة دينية بحتة، كجماعة أبو النصر البيانوني التي كانت تمنع أفرادها من التعاطي في شؤون السياسة، وحتى من قراءة مؤلفات سيد قطب، وتمارس نشاطها التثقيفي الدعوي في مدينة حلب جهاراً، ومع ذلك، عندما سمع أفرادُها بعملية المدفعية، دب فيهم الحماس، وانشق قسم كبير منهم عن شيخهم أبي النصر، والتقى بهم الكاتب في المعتقل. (هذا يأخذنا، بشكل غير مباشر، إلى فكرة "الحاضنة الشعبية").

الثالثة: أن بعض قيادات الإخوان المسلمين، بعد إعلان الملاحقة، خرجوا من سوريا، وبعضهم عاش في كنف صدام حسين، وآخرون في أوروبا، وكان سجناء تدمر يلومونهم لأنهم تخلوا عنهم.. وعناصر الطليعة المقاتلة يتهمونهم باحتكار الموارد، وفي كتاب ناج من المقصلة إشارة إلى قصيدة نظمها أحد السجناء تعاتب القادة.

سابعاً- ملاحظة شخصية: بعدما قرأت حوالي نصف الكتاب اتصلت بالصديق محمد برو، وقلت له إن مَن يقرأ كتابك يزداد احترامه لك. والحقيقة أن هؤلاء الناس الذين خاضوا تجربة الاعتقال في سجون حافظ الأسد (وصدام حسين طبعاً)، وبالأخص سجن تدمر، يستحقون الاحترام والتقدير، فما مر بهم، لخصه محمد برو في غير موضع من الكتاب بقوله إن المعتقلين، حينما يتفرجون على شخص يعذب بضراوة:

- رحنا ندعو له أن يموت بسرعة، ليتخلص من هذا الجحيم!

والكاتب نفسه حزن كثيراً عندما غيروا حكمه من الإعدام إلى سجن عشر سنوات، وصار يغبط زملاءه الذين أعدموا، وتخلصوا من هذا البلاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يقع الكتاب في 385 صفحة، وهو صادر عن دار جسور- بيروت 2021.